وجاءت الطائفة الرابعة فردوا على هؤلاء دعواهم : أن يكون الكلام مجرد المعنى، فزعم بعضهم أن الكلام ليس إلا الحرف أو الصوت فقط، وأن المعاني المجردة لا تسمى كلامًا أصلا، وليس كذلك، بل الكلام المطلق اسم للمعاني والحروف جميعًا، وقد يسمى أحدهما كلاماً مع التقييد كما يقول النحاة : الكلام : اسم، وفعل، وحرف. فالمقسوم هنا اللفظ، وكما قال الحسن البصري : ما زال أهل العلم يعودون بالتكلم على التفكر، وبالتفكر على التدبر، ويناطقون القلوب حتى نطقت. وكما قال / الجنيد : التوحيد قول القلب، والتوكل عمل القلب. فجعلوا للقلب نطقًا، وقوة، كما جعل النبي ﷺ للنفس حديثًا في قوله :( إن الله تجاوز لأمتي عما حَدَّثَتْ به أنفسها ـ ثم قال ـ : ما لم تتكلم به، أو تعمل به ).
فعلم أن [ الكلام المطلق ] هو ما كان بالحروف المطابقة للمعنى، وإن كان مع التقييد قد يقع بغير ذلك، حتى إنهم قد يسمون كل إفهام ودلالة يقصدها الدال قولاً، سواء كانت باللفظ أو الإشارة، أو العقد ـ عقد الأصابع ـ وقد يسمون أيضًا الدلالة قولا، وإن لم تكن بقصد من الدال مثل دلالة الجامدات كما يقولون : قالت :[ أتساع بطنه ].
وامتلأ الحوض وقال قطني ** قطني رويدًا قد ملأت بطني
وقالت له العينان سمعا وطاعة ويسمى هذا لسان الحال ودلالة الحال، ومنه قولهم : سل الأرض من فجر أنهارك، وسقى ثمارك، وغرس أشجارك ؟ فإن لم تجبك حوارًا أجابتك اعتبارًا، ومنه قولهم :
تخبرني العينان ما لقلب كاتم ** ولا خير في الحيا والنظر الشزر
[ النظر الشزر : نظر شزر : فيه إعراض كنظر المعادي المبغض، وقيل : هو نظر على غير استواء بمؤخر العين، وقيل : هو النظر عن يمين وشمال ].
ومنه قولهم :
سألت الدار تخبرني ** عن الأحباب ما فعلوا
فقالت لي أناخ القوم ** أياما وقد رحلوا