وهذا معنى قول السلف : منه بدأ، قال أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ : منه بدأ : أي هو المتكلم به؛ فإن الذين قالوا : إنه مخلوق، قالوا : خلقه في غيره، فبدا من ذلك المخلوق، فقال السلف : منه بدا، أي هو المتكلم به لم يخلقه في غيره فيكون كلامًا لذلك المحل الذي خلقه فيه؛ فإن الله ـ تعالى ـ إذا خلق صفة من الصفات في محل كانت الصفة صفة لذلك المحل ولم تكن صفة لرب العالمين؛ فإذا خلق طعما أو لونًا في محل كان ذلك المحل هو المتحرك المتلون به، وكذلك إذا خلق حياة أو إرادة أو قدرة أو علمًا أو كلامًا في محل كان ذلك المحل هو المريد، / القادر، العالم، المتكلم بذلك الكلام، ولم يكن ذلك المعنى المخلوق في ذلك المحل صفة لرب العالمين، وإنما يتصف الرب ـ تعالى ـ بما يقوم به من الصفات، لا بما يخلقه في غيره من المخلوقات، فهو الحي، العليم، القدير، السميع، البصير، الرحيم، المتكلم بالقرآن وغيره من الكلام، بحياته وعلمه وقدرته وكلامه القائم به، لا بما يخلقه في غيره من هذه المعاني.
ومن جعل كلامه مخلوقًا لزمه أن يقول المخلوق هو القائل لموسى :﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ [ طه : ١٤ ]، وهذا ممتنع، لا يجوز أن يكون هذا كلامًا إلا لرب العالمين، وإذا كان الله قد تكلم بالقرآن والتوراة وغير ذلك من الكتب بمعانيها وألفاظها المنتظمة من حروفها لم يكن شيء من ذلك مخلوقًا، بل كان ذلك كلامًا لرب العالمين.
وقد قيل للإمام أحمد بن حنبل : إن فلانًا يقول :[ لما خلق الله الأحرف سجدت له إلا الألف، فقالت : لا أسجد حتى أومر ]، فقال : هذا كفر. فأنكر على من قال : إن الحروف مخلوقة؛ لأنه إذا كان جنس الحروف مخلوقًا لزم أن يكون القرآن العربي والتوراة العبرية وغير ذلك مخلوقًا، وهذا باطل مخالف لقول السلف والأئمة، مخالف للأدلة العقلية والسمعية، كما قد بسط في غير هذا الموضع.


الصفحة التالية
Icon