وقد بسطت الكلام في هذه المواضع، التي هي محارات العقول، التي اضطربت فيها الخلائق في الموضع الذي يليق به؛ فإن هذا جواب فتيا لا يليق به إلا التنبيه على جمل الأمور، وإثبات وجوب نسبة الكلام إلى من بدأ منه لفظه ومعناه دون من بلغه عنه وأداه، وأنه كلام المتصف به مبتدئًا حقيقة، سواء سمع منه أو سمع ممن بلغه وأداه بفعله وصوته، مع العلم بأن أفعال العباد وصفاتهم مخلوقة، وأن قول الله ورسوله والمؤمنين : هذا كلام الله، وما بين اللوحين كلام الله حقيقة لا ريب فيه، وأن القرآن الذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه ويحفظونه هو كلام الله ـ تعالى ـ وكلام الله حيث تصرف غير مخلوق. وأما ما اقترن بتبليغه وقراءته من أفعال العباد، وصفاتهم فإنه مخلوق.
لكن هذا الموضع فيه اشتباه وإشكال لا تحتمل تحريره وبسطه هذه الفتوى؛ لأن صاحبها مستوفز عجلان يريد أخذها؛ ولأن في / ذلك من الدقة والغموض ما يحتاج إلى ذكر النصوص، وبيان معانيها، وضرب الأمثال التي توضح حقيقة الأمر، وليس هذا موضعه.
بل الذي يعلم من حيث الجملة، أن الإمام أحمد والأئمة الكبار الذين لهم في الأمة لسان صدق عام، لم يتنازعوا في شيء من هذا الباب، بل كان بعضهم أعظم علمًا به وقيامًا بواجبه من بعض. وقد غلط في بعض ذلك من أكابر الناس جماعات. وقد رد الإمام أحمد عامة البدع في هذا الباب هو والأئمة.
فأول ما ابتدع الجهمية القول بخلق القرآن و نفي الصفات، فأنكرها من كان في ذلك الوقت من التابعين ثم تابعي التابعين ومن بعدهم من الأئمة وكَفَّروا قائلها. ثم ابتدع بعض أهل الحديث والكلام ـ الذين ناظروا الجهمية ـ القول بأن القرآن المنزل مخلوق، أو أنه ليس بكلام الله، أو أنه ليس في المصاحف ولا في الصدور، وأنكر بعضهم أن تكون حروف القرآن كلام الله، أو أن يكون الله تكلم بالصوت، وأنكر الإمام أحمد وأئمة وقته ذلك.


الصفحة التالية
Icon