قالت هذه الطوائف : ونحن بهذا الطريق علمنا حدوث العالم، فاستدللنا على حدوث الأجسام بأنها لا تخلو من الحوادث ولا تسبقها، وما لم يسبق الحوادث فهو حادث. ثم من هؤلاء من ظن أن هذه / قضية ضرورية ولم يتفطن لإجمالها. ومنهم من تفطن للفرق بين مالم يسبق الحوادث المحصورة المحدودة وما يسبق جنس الحوادث المتعاقبة شيئًا بعد شيء. أما الأول فهو حادث بالضرورة؛ لأن تلك الحوادث لها مبدأ معين، فما لم يسبقها يكون معها أو بعدها وكلاهما حادث.
وأما جنس الحوادث شيئًا بعد شيء فهذا شيء تنازع فيه الناس، فقيل : إن ذلك ممتنع في الماضي والمستقبل، كقول الجهم وأبي الهذيل. فقال الجهم بفناء الجنة والنار. وقال أبوالهذيل بفناء حركات أهلهما. وقيل : بل هو جائز في المستقبل دون الماضي؛ لأن الماضي دخل في الوجود دون المستقبل. وهو قول كثير من طوائف النظَّار. وقيل : بل هو جائز في الماضي والمستقبل، وهذا قول أئمة أهل الملل وأئمة السنة ـ كعبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل، وغيرهما ـ ممن يقول بأن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء، وأن كلمات الله لا نهاية لها، وهي قائمة بذاته، وهو متكلم بمشيئته وقدرته. وهو ـ أيضًا ـ قول أئمة الفلاسفة.
لكن أرسطو وأتباعه مدعون ذلك في حركات الفلك، ويقولون : إنه قديم أزلي، وخالفوا في ذلك جمهور الفلاسفة، مع مخالفة الأنبياء والمرسلين وجماهير العقلاء. فإنهم متفقون على أن الله خلق السموات والأرض، بل هو خالق كل شيء، وكل ما سوى الله مخلوق حادث، كائن بعد أن لم يكن. وإن القديم الأزلي. هو الله ـ تعالى ـ بما هو متصف به من صفات / الكمال وليست صفاته خارجة عن مسمى اسمه، بل من قال : عبدت الله ودعوت الله، فإنما عبد ذاته المتصفة بصفات الكمال التي تستحقها، ويمتنع وجود ذاته بدون صفاتها اللازمة لها.


الصفحة التالية
Icon