ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره، ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذى هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم؛ فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع، وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية، الذين كانوا يقولون : القرآن مخلوق، وإن الله لايرى في الآخرة. وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفّر به قومًا معينين، فأما أن يذكر عنه في المسألة روايتان، ففيه نظر أو يحمل الأمر على التفصيل. فيقال : من كفر بعينه؛ فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير، وانتفت موانعه، ومن لم يكفره بعينه فلانتفاء ذلك في حقه، هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم.
والدليل على هذا الأصل : الكتاب، والسنة، والإجماع، والاعتبار.
أما الكتاب، فقوله سبحانه وتعالى :﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ ﴾ [ الأحزاب : ٥ ] وقوله تعالى :﴿ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ].
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبى هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن الله ـ تعالى ـ قال :( قد فعلتُ ) لما دعا النبي ﷺ والمؤمنون بهذا الدعاء. وروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس، أن النبي ﷺ قال :( أعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة من كَنْز تحت العرش )، ( إنه لم يقرأ بحرف منها إلا أعطيه ).
وإذا ثبت بالكتاب المفسر بالسنة أن الله قد غفر لهذه الأمة الخطأ والنسيان، فهذا عام عمومًا محفوظًا، وليس في الدلالة الشرعية ما يوجب أن الله يعذب من هذه الأمة مخطئًا على خطئه، وإن عذب المخطئ من غير هذه الأمة.


الصفحة التالية