وقيل لهم : قد كَفَّر اللَّهُ من جعل القرآن العربي قول البشر، وقد جعله تارة قول رسول من البشر، وتارة قول رسول من الملائكة، فقال في موضع :﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [ الحاقة : ٤٠-٤٢ ]، فهذا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وقال في الآية الأخرى :﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ﴾ [ التكوير : ١٩-٢١ ]، فهذا جبريل، فأضافه تارة إلى الرسول الملكي، وتارة إلى الرسول البشري، والله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس.
وكان بعض هؤلاء ادعى أن القرآن العربي أحدثه جبريل أو محمد، فقيل لهم : لو أحدثه أحدهما لم يجز إضافته إلى الآخر. وهو ـ سبحانه ـ أضافه إلى كل منهما باسم الرسول الدال على مرسله لا باسم الملك والنبي، فدل ذلك على أنه قول رسول بلغه عن مرسله، لا قول ملك أو نبي أحدثه من تلقاء نفسه، بل قد كفر من قال : إنه قول البشر.
والطائفة الأخرى ـ التي وافقت ابن كلاب على أن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته ـ قالت : بل الكلام القديم هو حروف، أو حروف وأصوات لازمة لذات الرب أزلا وأبدًا لايتكلم بها بمشيئته وقدرته، ولا يتكلم بها شيئًا بعد شيء. ولم يفرق هؤلاء بين جنس الحروف وجنس الكلام، وبين عين حروف قديمة أزلية، وهذا ــ أيضًا- مما يقول جمهور العقلاء أنه معلوم الفساد بالضرورة؛ فإن الحروف المتعاقبة شيئًا بعد شيء يمتنع أن يكون كل منها قديمًا أزليا، وإن كان جنسها قديمًا؛ لإمكان وجود كلمات لا نهاية لها، وحروف متعاقبة لا نهاية لها، وامتناع كون كل منها قديمًا أزليًا؛ فإن المسبوق بغيره لا يكون أزليًا.


الصفحة التالية
Icon