وقد فرق بعضهم بين وجودها وماهيتها، فقال : الترتيب في ماهيتها لا في وجودها، وبطلان هذا القول معلوم بالاضطرار لمن تدبره، فإن ماهية الكلام الذي هو حروف لا يكون شيئًا بعد شيء، والصوت لا يكون إلا شيئًا بعد شيء، فامتنع أن يكون وجود الماهية المعينة أزليًا متقدمًا عليها به، مع أن الفرق بينهما بين لو قدر الفرق بينهما، ويلزم من هذين الوجهين أن يكون وجودها ـ أيضًا ـ مترتبًا ترتيبًا متعاقبًا.
ثم من هؤلاء من يزعم أن ذلك القديم هو ما يسمع من العباد من الأصوات بالقرآن والتوراة والإنجيل أو بعض ذلك، وكان أظهر / فسادا مما قبله، فإنه يعلم بالضرورة حدوث أصوات العباد.
وطائفة خامسة قالت : بل الله يتكلم بمشيئته وقدرته بالقرآن العربي وغيره، لكن لم يكن يمكنه أن يتكلم بمشيئته في الأزل؛ لامتناع حوادث لا أول لها، وهؤلاء جعلوا الرب في الأزل غير قادر على الكلام بمشيئته، ولا على الفعل كما فعله أولئك، ثم جعلوا الفعل والكلام ممكنا مقدورًا من غير تجدد شيء أوجب القدرة والإمكان، كما قال أولئك في المفعولات المنفصلة.
وأما السلف فقالوا : لم يزل الله متكلما إذا شاء، وأن الكلام صفة كمال، ومن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، كما أن من يعلم ويقدر أكمل ممن لا يعلم ولا يقدر، ومن يتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن يكون الكلام لازمًا لذاته، ليس له عليه قدرة ولا له فيه مشيئة، والكمال إنما يكون بالصفات القائمة بالموصوف لا بالأمور المباينة له، ولا يكون الموصوف متكلما عالمًا قادرًا إلا بما يقوم به من الكلام والعلم والقدرة.
وإذا كان كذلك فمن لم يزل موصوفًا بصفات الكمال أكمل ممن حدثت له بعد أن لم يكن متصفًا بها لو كان حدوثها ممكنًا، فكيف إذا كان ممتنعًا ؟ فتبين أن الرب لم يزل ولا يزال موصوفًا بصفات الكمال، منعوتًا بنعوت الجلال؛ ومن أجلِّها الكلام. فلم يزل متكلما إذا شاء ولا يزال كذلك، وهو يتكلم إذا شاء بالعربية كما تكلم بالقرآن /العربي، وما تكلم الله به فهو قائم به ليس مخلوقًا منفصلا عنه، فلا تكون الحروف التي هي مباني أسماء الله الحسنى وكتبه المنزلة مخلوقة؛ لأن الله تكلم بها.


الصفحة التالية
Icon