وإذا عرف ذلك، فالناس في الجواب عن حجته الداحضة ـ وهي قوله :[ لو قلت : إنه كلمه فالكلام لا يكون إلا بحرف وصوت والحرف والصوت محدث ] ـ ثلاثة أصناف : صنف منعوه المقدمة الأولى، وصنف منعوه المقدمة الثانية، وصنف لم يمنعوه المقدمتين، بل استفسروه، و بينوا أن ذلك لا يمنع أن يكون الله كلم موسى تكليمًا.
فالصنف الأول : أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، وأبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، ومن اتبعهما، قالوا : لا نسلم أن الكلام لا يكون إلا بحرف وصوت، بل الكلام معنى قائم بذات المتكلم، والحروف والأصوات عبارة عنه، وذلك المعنى القائم بذات الله ـ تعالى ـ يتضمن الأمر بكل ما أمر به، والخبر عن كل ما أخبر عنه، إن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، وقالوا : إنه اسم الكلام حقيقة، فيكون اسم الكلام مشتركا أو مجازًا في كلام الخالق، وحقيقة في كلام المخلوق.
والصنف الثاني : سلموا لهم أن الكلام لا يكون إلا بحرف وصوت، ومنعوهم المقدمة الثانية، وهو أن الحرف والصوت لا يكون إلا محدثًا.
وصنف قالوا : إن المحدث كالحادث، سواء كان قائمًا بنفسه أو بغيره، وهو يتكلم بكلام لا يكون قديمًا، وهو بحرف وصوت، وهذا قول من يقول : القرآن قديم، وهو بحرف وصوت، كأبي الحسن بن سالم وأتباعه السالمية وطوائف ممن اتبعه، وقال هؤلاء في الحرف والصوت نظير ما قاله الذين قبلهم في المعاني.
وقالوا : كلام لا بحرف ولا صوت لا يعقل، ومعنى يكون أمرًا ونهيًا وخبرًا ممتنع في صريح العقل، ومن ادعى أن معنى التوراة والإنجيل والقرآن واحد، وإنما اختلفت العبارات الدالة عليه ـ فقوله معلوم الفساد بالاضطرار عقلا وشرعًا، وإخراج الحروف عن مسمى الكلام مما يعلم فساده بالاضطرار من جميع اللغات، وإن جاز أن يقال : إن الحروف والأصوات المخلوقة في غير كلام الله حقيقة، أمكن حينئذ أن يكون كلم موسى بكلام مخلوق في غيره.