ومثله قوله تعالى في الآية الأخرى :﴿ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ ﴾ [ الأنعام : ١١٤ ]، وهذا الكلام صفة الله ـ تعالى ـ وأما ما اختص قيامه بنا، من حركاتنا وأصواتنا، وفهمنا وغير ذلك من صفاتنا، فلم يقم منه شيء بذات الله ـ سبحانه ـ كما أن ما اختص الرب ـ تعالى ـ بقيامه به لم ينتقل عنه، ولم يقم بغيره لا هو ولا مثله؛ فإن المخلوق إذا سمع من المخلوق كلامه وبلغه عنه كان ما بلغه هو كلامه، كما تقدم قول النبي ﷺ :( نَضَّر الله امرأ سمع منا حديثًا، فبلغه كما سمعه )، مع أن ما قام بالنبي ﷺ ـ بباطنه من العلم والإرادة وغيرهما، وبظاهره من الحركة والصوت وغيرهما ـ لم ينتقل عنه، ولم يقم بغيره، بل جميع صفات المخلوقين لا تفارق ذواتهم وتنتقل عنهم، فكيف يجوز أن يقال : إن صفة الخالق فارقت ذاته فانتقلت عنه ؟
والمتعلم إذا أخذ علم المعلم ونقله عنه لم يفارق ذات الأول، وينتقل عنها إلى الثاني، بل نفس الحقيقة العلمية حصلت له مثل ما حصلت لمعلمه، أو ليس مثله بل يشبهه؛ ولهذا يشبه العلم بضوء السراج، كل أحد يقتبس منه وهو لم ينقص. ومن المعلوم أن من أوقد من مصباح غيره فإنه لم ينتقل إلى سراجه شيء من جرم تلك النار، ولا شيء من صفاتها القائمة بها، بل جعل الله بسبب ملاصقة النار ذلك نارًا مثل تلك، / فالحقيقة النارية موجودة، وإن كانت هذه العين ليست تلك، لكن النار والعلم ليس هو مثل الكلام الذي يبلغ عن الغير، بل هو مثل أن يسمع بعض الناس كلام غيره، وشعر غيره، فيقول من جنس ما قال، ويقول كما قال غيره مثله، كما يقال : وَقْع الخاطر على الخاطر كوقع الحافر على الحافر، وليس هذا من التبليغ والرواية في شيء، فإن قول القائل :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل**