فإن القرآن كلام، والكلام نفسه يكتب في المصحف، بخلاف الأعيان؛ فإنه إنما يكتب اسمها وذكرها، فالرسول مكتوب في التوراة والإنجيل ذكره ونعته، كما أن القرآن في زبر الأولين، وكما أن أعمالنا في الزبر، قال تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٩٦ ]، وقال تعالى :﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ﴾ [ القمر : ٥٢ ]، ومحمد مكتوب في التوراة والإنجيل، كما أن القرآن في تلك الكتب، وكما أن أعمالنا في الكتب، وأما القرآن فهو نفسه مكتوب في المصاحف، ليس المكتوب ذكره والخبر عنه، كما يكتب اسم الله في الورق، ومن لم يفرق بين كتابة الأسماء والكلام، وكتابة المسميات والأعيان ـ كما جرى لطائفة من الناس ـ فقد غلط غلطًا سَوَّى فيه بين الحقائق المختلفة، كما قد /يجعل مثل هؤلاء الحقائق المختلفة شيئًا واحدًا، كما قد جعلوا جميع أنواع الكلام معنى واحدًا.
وكلام المتكلم يسمع تارة منه، وتارة من المبلغ، فالنبي ﷺ لما قال :( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه ) ـ فهذا الكلام قاله رسول الله ﷺ بلفظه ومعناه؛ فلفظه لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعناه معنى الرسول، فإذا بلغه المبلغ عنه بلغ كلام الرسول بلفظه ومعناه؛ ولكن صوت الصحابي المبلغ ليس هو صوت رسول الله ﷺ.
فالقرآن كلام الله، لفظه ومعناه، سمعه منه جبريل، وبلغه عن الله إلى محمد، ومحمد سمعه من جبريل وبلغه إلى أمته، فهو كلام الله حيث سمع وكتب وقرئ، كما قال تعالى :﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ﴾ [ التوبة : ٦ ].