وقد ذكرت كلامه وكلام غيره من الأئمة ونصوص الكتاب والسنة في هذه الأبواب في غير هذا الموضع، وبينا أن كل ما يدل عليه الكتاب والسنة فإنه موافق لصريح المعقول، وأن العقل الصريح لا يخالف / النقل الصحيح، ولكن كثيرًا من الناس يغلطون، إما في هذا وإما في هذا، فمن عرف قول الرسول ومراده به كان عارفًا بالأدلة الشرعية، وليس في المعقول ما يخالف المنقول ؛ ولهذا كان أئمة السنة على ما قاله أحمد بن حنبل، قال : معرفة الحديث والفقه فيه أحب إليَّ من حفظه، أي معرفته بالتمييز بين صحيحه وسقيمه. والفقه فيه : معرفة مراد الرسول وتنزيله على المسائل الأصولية والفروعية، أحب إلىَّ من أن يحفظ من غير معرفة وفقه. وهكذا قال علي بن المديني وغيره من العلماء، فإنه من احتج بلفظ ليس بثابت عن الرسول أو بلفظ ثابت عن الرسول وحمله على ما لم يدل عليه، فإنما أتي من نفسه.
وكذلك العقليات الصريحة، إذا كانت مقدماتها وترتيبها صحيحًا لم تكن إلا حقًا، لا تناقض شيئًا مما قاله الرسول، والقرآن قد دل على الأدلة العقلية التي بها يعرف الصانع وتوحيده، وصفاته وصدق رسله، وبها يعرف إمكان المعاد. ففي القرآن من بيان أصول الدين التي تعلم مقدماتها بالعقل الصريح ما لا يوجد مثله في كلام أحد من الناس، بل عامة ما يأتي به حذَّاق النظار من الأدلة العقلية يأتي القرآن بخلاصتها، وبما هو أحسن منها، قال تعالى :﴿ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ﴾ [ الفرقان : ٣٣ ]، وقال :﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ﴾ [ الروم : ٥٨ ]، وقال :﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [ الحشر : ١٢ ].


الصفحة التالية
Icon