وأما الحجج الداحضة التي يحتج بها الملاحدة، وحجج الجهمية مُعَطِّلَة الصفات، وحجج الدهرية وأمثالها؛ كما يوجد مثل ذلك في كلام المتأخرين الذين يصنفون في الكلام المبتدع وأقوال المتفلسفة ويدعون أنها عقليات ـ ففيها من الجهل والتناقض والفساد، ما لا يحصيه إلا رب العباد، وقد بسط الكلام على هؤلاء في مواضع أخر.
وكان من أسباب ضلال هؤلاء تقصير الطائفتين، أو قصورهم عن معرفة ما جاء به الرسول، وما كان عليه السلف، ومعرفة المعقول الصريح؛ فإن هذا هو الكتاب، وهذا هو الميزان، وقد قال تعالى :﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [ الحديد : ٢٥ ].
وهذه المسألة لا تحتمل البسط على هذه الأمور؛ إذ كان المقصود هنا التنبيه على أن هؤلاء المتنازعين أجمعوا على أصل فاسد، ثم تفرقوا فأجمعوا على أن جعلوا عين صفة الرب الخالق هي عين صفة المخلوق، ثم قال هؤلاء : وصفة المخلوق مخلوقة، فصفة الرب مخلوقة، فقال هؤلاء : صفة الرب قديمة فصفة المخلوق قديمة. ثم احتاج كل منهما إلى طرد أصله، فخرجوا إلى أقوال ظاهرة الفساد؛ خرج النفاة إلى أن الله لم يتكلم بالقرآن، ولا بشيء من الكتب الإلهية، لا التوراة ولا الإنجيل ولا غيرهما، وأنه لم / يناد موسى بنفسه نداء يسمعه منه موسى، ولا تكلم بالقرآن العربي ولا التوراة العبرية، وخرج هؤلاء إلى أن ما يقوم بالعباد ويتصفون به يكون قديمًا أزليًا، وأن ما يقوم بهم ويتصفون به لا يكون قائمًا بهم حالا فيهم، بل يكون ظاهرًا عنهم من غير قيام بهم.


الصفحة التالية
Icon