قلت : الذي قاله أحمد في هذا الباب صواب يصدق بعضه بعضًا، وليس في كلامه تناقض، وهو أنكره على من قال : إن الله خلق الحروف؛ فإن من قال : إن الحروف مخلوقة كان مضمون قوله : إن الله لم يتكلم بقرآن عربي، وأن القرآن العربي مخلوق، ونص أحمد ـ أيضًا ـ على أن كلام الآدميين مخلوق، ولم يجعل شيئًا منه غير مخلوق، وكل هذا صحيح، والسري ـ رحمه الله ـ إنما ذكر ذلك عن بكر بن خُنَيْس العابد، فكان مقصودهما بذلك أن الذي لا يعبد الله إلا بأمره، هو أكمل ممن يعبده برأيه من غير أمر من الله، واستشهدا على ذلك بما بلغهما :( أنه لما خلق الله الحروف سجدت له إلا الألف، فقالت : لا أسجد حتى أومر )، وهذا الأثر لا يقوم بمثله حجة في شيء، ولكن مقصودهما ضرب المثل أن الألف منتصبة في الخط، ليست هي مضطجعة كالباء والتاء، فمن لم يفعل حتى يؤمر أكمل ممن فعل بغير أمر.
وأحمد أنكر قول القائل :[ إن الله لما خلق الحروف ]، وروي عنه أنه قال : من قال : إن حرفًا من حروف المعجم مخلوق فهو جهمي؛ لأنه سلك طريقًا إلى البدعة، ومن قال : إن ذلك مخلوق فقد قال : إن القرآن مخلوق. وأحمد قد صرح هو وغيره من الأئمة أن الله لم يزل متكلما إذا / شاء، وصرح أن الله يتكلم بمشيئته، ولكن أتباع ابن كلاب كالقاضي وغيره تأولوا كلامه على أنه أراد بذلك إذا شاء الإسماع؛ لأنه عندهم لم يتكلم بمشيئته وقدرته.


الصفحة التالية
Icon