وكان في نفس الأمر نصوص خاصة بأن النبي ﷺ رخص للحائض أن تنفر بلا وداع، وأنها تلبس الخفين وغيرهما مما نهى عنه المحرم، ولكن تجتنب النقاب والقفازين، وأنه رخص في موضع أصبعين أو ثلاثة أو أربعة من الحرير، كما بين ذلك في الصحيح في رواية عمر، ولم يعرف به ابنه عبد اللّه، وكان له جبة مكفوفة بالحرير، فلما سمع ابن عمر ونحوه هذه النصوص الخاصة رجعوا، وعلموا حينئذ أنه كان في نفس الأمر دليل أقوى من الدليل الذي يستصحبوه ولم يعلموا به، وهم في الحالين إنما حكموا بعلم لم يكونوا ممن لم يتبع إلا الظن، فإنهم أولا رجحوا العموم على استصحاب البراءة الأصلية، وهذا ترجيح بعلم، فإن هذا راجح بلا ريب، والشرع طافح بهذا.
فما أوجبه اللّه أو حرمه في كتابه ـ كالوضوء والصلاة والحج وغيرها - هي نصوص عامة، وما حرمه ـ كالميتة والدم ولحم الخنزير ـ حرمه بنصوص عامة، وهي راجحة ومقدمة على البراءة الأصلية النافية للوجوب والتحريم، فمن رجح ذلك فقد حكم بعلم، وحكم بأرجح الدليلين المعلوم الرجحان، ولم يكن ممن لم يتبع إلا الظن، لكن لتجويزه أن يكون النص مخصوصًا صار عنده ظن راجح، ولو علم أنه لا تخصيص هناك قطع بالعموم، وكذلك لو علم إرادة نوع قطع بانتفاء الخصوص، وهذا القول في سائر الأدلة، مثل أن يتمسك بنصوص، وتكون منسوخة، ولم يبلغه الناسخ، كالذين نهوا عن الانتباذ في الأوعية، وعن زيارة القبور، ولم يبلغهم النص الناسخ، وكذلك الذين صلوا إلى بيت المقدس قبل أن يبلغهم النسخ، مثل من كان من المسلمين بالبوادي وبمكة والحبشة وغير ذلك، وهؤلاء غير الذين كانوا بالمدينة، وصلى بعضهم صلاة إلى القبلتين؛ بعضها إلى هذه القبلة وبعضها إلى هذه القبلة، لما بلغهم النسخ وهم في أثناء الصلاة فاستداروا في صلاتهم من جهة بيت المقدس إلى جهة الكعبة، من جهة الشام إلى جهة اليمن.