فالقاضي أبو بكر ونحوه، من الذين ينفون أن يكون في الباطن حكم مطلوب بالاجتهاد أو دليل عليه، ويقولون : ما ثم إلا الظن الذي في نفس المجتهد، والأمارات لا ضابط لها، وليست أمارة أقوى من أمارة ـ فإنهم إذا قالوا ذلك لزمهم أن يكون الذي عمل بالمرجوح دون الراجح مخطئًا، وعندهم ليس في نفس الأمر خطأ.
وأما السلف والأئمة الأربعة والجمهور فيقولون : بل الأمارات بعضها أقوى من بعض في نفس الأمر، وعلى الإنسان أن يجتهد ويطلب الأقوى، فإذا رأى دليلاً أقوى من غيره ولم ير ما يعارضه عمل به، ولا يكلف اللّه نفسًا إلا وسعها، وإذا كان في الباطن ما هو أرجح منه كان مخطئًا معذورًا، وله أجر على اجتهاده وعمله بما بين له رجحانه، وخطؤه مغفور له، وذلك الباطن هو الحكم، لكن بشرط القدرة على معرفته، فمن عجز عن معرفته لم يؤاخذ بتركه.
فإذا أريد بالخطأ الإثم فليس المجتهد بمخطئ، بل كل مجتهد مصيب مطيع للّه، فاعل ما أمره اللّه به، وإذا أريد به عدم العلم بالحق في نفس الأمر فالمصيب واحد وله أجران، كما في المجتهدين في جهة الكعبة إذا صلوا إلى أربع جهات، فالذي أصاب الكعبة، واحد وله أجران لاجتهاده وعمله، كان أكمل من غيره، والمؤمن القوي أحب إلى اللّه من المؤمن الضعيف، ومن زاده اللّه علماً وعملا زاده أجرًا بما زاده من العلم والعمل، قال تعالى :﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء ﴾ [ الأنعام : ٨٣ ]، قال مالك عن زيد بن أسلم : بالعلم، وكذلك قال في قصة يوسف :﴿ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ [ يوسف : ٧٦ ].


الصفحة التالية
Icon