ولهذا يقبلون شهادة أهل الأهواء ويصلون خلفهم، ومن ردها ـ كمالك وأحمد ـ فليس ذلك مستلزمًا لإثمهما، لكن المقصود إنكار المنكر وهجر من أظهر البدعة، فإذا هجر ولم يصل خلفه ولم تقبل شهادته، كان ذلك منعًا له من إظهار البدعة؛ ولهذا فرق أحمد وغيره بين الداعية للبدعة المظهر لها وغيره، وكذلك قال الخِرَقي [ هو عمر بن الحسين بن عبد اللّه الخرقي أبو القاسم، كان من أعيان الفقهاء الحنابلة، ورحل عن بغداد لما ظهر فيها سب الصحابة، له تصانيف كثيرة احترقت، وبقى منها [ المختصر في الفقه ] ويعرف بمختصر الخرقي، توفى بدمشق ودفن بها سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة ] : ومن صلى خلف من يجهر ببدعة أو منكر أعاد، وبسط هذا له موضع آخر.
والذين فرقوا بين الأصول والفروع لم يذكروا ضابطًا يميز بين النوعين، بل تارة يقولون : هذا قطعي وهذا ظني. وكثير من مسائل الأحكام قطعي، وكثير من مسائل الأصول ظني عند بعض الناس، فإن كون الشىء قطعيًا وظنيًا أمر إضافي. وتارة يقولون : الأصول هي العلميات الخبريات، والفروع العمليات وكثير من العمليات من جحدها كفر؛ كوجوب الصلاة والزكاة، والصيام والحج. وتارة يقولون : هذه عقليات وهذه سمعيات، وإذا كانت عقليات لم يلزم تكفير المخطئ، فإن الكفر حكم شرعي يتعلق بالشرع، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع.
وإذا تدبر الإنسان تنازع الناس، وجد عند كل طائفة من العلم ما ليس عند الأخرى، كما في مسائل الأحكام، مثال ذلك : ما تقدم في الأصول الخمسة : التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، ومسائل الأسماء والأحكام، وإنفاذ الوعيد، وهي التي توالى المعتزلة من وافقهم عليها، ويتبرؤون ممن خالفهم فيها. وقد قدمنا أنهم قصدوا توحيد الرب وإثبات عدله وحكمته ورحمته وصدقه وطاعة أمره، لكن غلطوا في كل واحدة من هذه الأمور، كما تقدم.


الصفحة التالية
Icon