وكذلك الذين ناقضوهم من الجهمية ومن سلك مسلكهم ـ كأبي الحسن الأشعري وأصحابه ـ فإنهم ناقضوهم في الأصول الخمسة، وكان عندهم علم ليس عند أولئك، وكان عند أولئك علم ليس عند هؤلاء، وكل من الطائفتين لم تُحِطْ علمًا بما في الكتاب والسنة من بيان هذه الأمور، بل علموا بعضا وجهلوا بعضًا؛ فإن هؤلاء المجبرة هم في الحقيقة لا يثبتون للّه عدلاً ولا حكمة، ولا رحمة ولا صدقًا. فأولئك قصدوا إثبات هذه الأمور.
أما العدل فعندهم كل ممكن فهو عدل، والظلم عندهم هو الممتنع، فلا يكون ثَمَّ عدل يقصد فعله وظلم يقصد تركه؛ ولهذا يجوزون عليه فعل كل شيء وإن كان قبيحًا، ويقولون : القبيح هو ما نهى عنه، وهو لا ناهي له، ويجوزون الأمر بكل شيء وإن كان منكرًا وشركًا، والنهي عن كل شىء وإن كان توحيدًا ومعروفًا، فلا ضابط عندهم للفعل؛ فلهذا ألزموهم جواز إظهار المعجزات على يد الكاذب، ولم يكن لهم عن ذلك جواب صحيح، ولم يذكروا فرقًا بين المعجزات وغيرها، ولا ما به يعلم صدق النبي صلى الله عليه وسلم، إلا إذا نقضوا أصلهم، وقد قال اللّه تعالى :﴿ شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ ﴾ [ آل عمران : ١٨ ]، وعندهم هذا لا فائدة فيه، فليس في الممكن قسط وجور، حتى يكون قائمًا بهذا دون هذا، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع.
وكذلك الحكمة، عندهم لا يفعل لحكمة، وقد فسروا الحكمة إما بالعلم، وإما بالقدرة، وإما بالإرادة، ومعلوم أن القادر قد يكون حكيمًا ويكون غير حكيم، كذلك المريد قد تكون إرادته حكمة وقد تكون سفها، والعلم يطابق المعلوم، وسواء كان حكمة أو سفها، فليس عندهم في نفس الأمر أن اللّه حكيم.
وكذلك الرحمة، ما عندهم في نفس الأمر إلا إرادة ترجيح أحد المثلين بلا مرجح نسبتها إلى نفع العباد وضررهم سواء، فليس عندهم في نفس الأمر رحمة ولا محبة أيضًا.


الصفحة التالية
Icon