وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، وبيَّن تناقضهم في الصفات والأفعال، حيث أثبتوا الإرادة مع نفي المحبة والرضا، ومع نفي الحكمة، وبيّن تناقضهم وتناقض كل من أثبت بعض الصفات دون بعض، وأن المتفلسفة ـ نفاة الإرادة ـ أعظم تناقضًا منهم، فإن الرازي ذكر في المطالب العالية [ مسألة الإرادة ]، ورجح فيها نفي الإرادة؛ لأنه لم يمكنه أن يجيب عن حجة المتفلسفة على أصول أصحابه الجهمية والمعتزلة ففر إليهم، وكذلك في غير هذا من المسائل؛ فهو تارة يرجح قول المتفلسفة. وتارة يرجح قول المتكلمة. وتارة يحار ويقف، واعترف في آخر عمره بأن طريق هؤلاء وهؤلاء لا تشفي عليلا ولا تروي غليلاً.
وقال : قد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات :﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [ طه : ٥ ]، ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ﴾ [ فاطر : ١٠ ]، واقرأ في النفي :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [ الشورى : ١١ ] ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ﴾ [ طه : ١١٠ ]، ومن جَرَّب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي.
فقد تبين أنهم لا يثبتون عدل الرب ولا حكمته ولا رحمته.
وكذلك الصدق، فإنهم لما أرادوا أن يقيموا الدليل على أن اللّه صادق تعذر ذلك عليهم، فقالوا : الصدق في الكلام النفساني واجب؛ لأنه يعلم الأمور، ومن يعلم يمتنع أن يقوم في نفسه خبر بخلاف علمه، وعلى هذا اعتمد الغزالي وغيره.
فقيل لهم : هذا ضعيف لوجهين :
أحدهما : الصدق في ذلك المعنى لا ينفع إن لم يثبت الصدق في العبارات الدالة عليه، ويميز بين الأفعال عندهم.


الصفحة التالية
Icon