وأما أولئك ـ كنفاة الصفات من الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة وغيرهم، وكالفلاسفة ـ فيجعلون ما ابتدعوه هم برأيهم هو المحكم الذي يجب اتباعه، وإن لم يكن معهم من الأنبياء والكتاب والسنة ما يوافقه، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء، وإن كان صريحًا قد يعلم معناه بالضرورة، يجعلونه من المتشابه؛ ولهذا كان هؤلاء أعظم مخالفة للأنبياء من جميع أهل البدع، حتى قال يوسف بن أسباط وعبد اللّه بن المبارك وغيرهما ـ كطائفة من أصحاب أحمد : إن الجهمية نفاة الصفات خارجون عن الثنتين وسبعين فرقة، قالوا : وأصولها أربعة : الشيعة، والخوارج، والمرجئة، والقدرية.
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن في قوله تعالى :﴿ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾ [ آل عمران : ٧ ]، في المتشابهات قولان :
أحدهما : أنها آيات بعينها تتشابه على كل الناس.
والثاني ـ وهو الصحيح ـ : أن التشابه أمر نسبي، فقد يتشابه عند هذا ما لا يتشابه عند غيره، ولكن ثم آيات محكمات لا تشابه فيها على أحد، وتلك المتشابهات إذا عرف معناها صارت غير متشابهة، بل القول كله محكم، كما قال :﴿ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ ﴾ [ هود : ١ ]، وهذا كقوله :( الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس )، وكذلك قولهم :﴿ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ﴾ [ البقرة : ٧٠ ].
وقد صنف أحمد كتابًا في ( الرد على الزنادقة والجهمية ) فيما شكت فيه من متشابه القرآن، وتأولوه على غير تأويله، وفسر تلك الآيات كلها وذمهم على أنهم تأولوا ذلك المتشابه على غير تأويله، وعامتها آيات معروفة قد تكلم العلماء في تفسيرها، مثل الآيات التي سأل عنها نافع بن الأزرق ابن عباس. قال الحسن البصري : ما أنزل اللّه آية إلا وهو يحب أن يعلم فيم أنزلت، وماذا عني بها.


الصفحة التالية
Icon