ثم لو قدر أن هذا هو الخالق فهذا غير الأعيان الموجودة المخلوقة، فقد ثبت وجودان أحدهما غير الآخر، وأحدهما محدث مخلوق، فيكون الآخر الخالق غير المخلوق، ولا يمكن جحد وجود الأعيان المعينة، ولكن الواحد من هؤلاء قد يغيب عن شهود المغيبات كما يغيب عن شهود نفسه، فيظن أن ما لم يشهده قد عدم في نفسه وفنى وليس كذلك، فإن ما عدم وفنى شهوده له وعلمه به ونظره إليه، فالمعدوم الفاني صفة هذا الشخص، وإلا فالموجودات في نفسها باقية على حالها لم تتغير، وعدم العلم ليس علمًا بالمعدوم، وعدم المشهود ليس شهودًا للعدم، ولكن هذه الحال يعترى كثيرًا من السالكين يغيب أحدهم عن شهود نفسه وغيره من المخلوقات، وقد يسمون هذا فناء واصطلامًا، وهذا فناء عن شهود تلك المخلوقات، لا أنها في نفسها فنيت، ومن قال : فنى ما لم يكن وبقى مالم يزل، فالتحقيق - إذا كان صادقًا - أنه فني شهوده لما لم يكن، وبقى شهوده لما لم يزل. لا أن ما لم يكن فني في نفسه، فإنه باق موجود، ولكن يتوهمون إذا لم يشهدوه أنه قد عدم في نفسه.
ومن هنا دخلت طائفة في الاتحاد والحلول، فأحدهم قد يذكر اللّه حتى يغلب على قلبه ذكر اللّه ويستغرق في ذلك فلا يبقى له مذكور مشهود لقلبه إلا اللّه، ويفنى ذكره وشهوده لما سواه، فيتوهم أن الأشياء قد فنيت، وأن نفسه فنيت حتى يتوهم أنه هو اللّه، وأن الوجود هو اللّه.
ومن هذا الباب غلط أبي يزيد ونحوه حيث قال : ما في الجبة إلا اللّه.
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، وبين أنه يعبر بالفناء عن ثلاثة أمور :