وعلى هذا فقوله :﴿ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ﴾ [ آل عمران : ٧ ] نظير هذه الآية. فإنه أخبر هنا أن الذين أوتوا العلم يعلمون أنه الحق من ربهم، وأخبر هناك أنهم يقولون في المتشابه :﴿ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ﴾، وكلا الموضعين موضع ريب وشبهة لغيرهم؛ فإن الكلام هناك في المتشابه، وهنا فيما يلقي الشيطان مما ينسخه اللّه ثم يحكم اللّه آياته، وجعل المحكم هنا ضد الذي نسخه اللّه مما ألقاه الشيطان؛ ولهذا قال طائفة من المفسرين المتقدمين : إن [ المحكم ] هو الناسخ، و [ المتشابه ] المنسوخ. أرادوا ـ واللّه أعلم ـ قوله :﴿ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ﴾ [ الحج : ٥٢ ]، والنسخ هنا رفع ما ألقاه الشيطان لا رفع ما شرعه اللّه.
وقد أشرت إلى وجه ذلك فيما بعد، وهو : أن اللّه جعل المحكم مقابل المتشابه تارة، ومقابل المنسوخ أخرى. والمنسوخ يدخل فيه في اصطلاح السلف ـ العام ـ كل ظاهر ترك ظاهره لمعارض راجح، كتخصيص العام وتقييد المطلق؛ فإن هذا متشابه؛ لأنه يحتمل معنيين، ويدخل فيه المجمل فإنه متشابه، وإحكامه رفع ما يتوهم فيه من المعنى الذي ليس بمراد، وكذلك ما رفع حكمه، فإن في ذلك جميعه نسخًا لما يلقيه الشيطان في معاني القرآن؛ ولهذا كانوا يقولون : هل عرفت الناسخ من المنسوخ ؟ فإذا عرف الناسخ عرف المحكم. وعلى هذا فيصح أن يقال : المحكم والمنسوخ، كما يقال : المحكم والمتشابه.


الصفحة التالية
Icon