وقوله بعد ذلك :﴿ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ﴾ جعل جميع الآيات محكمة، محكمها ومتشابهها، كما قال :﴿ الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ ﴾ [ هود : ١ ]، وقال :﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ﴾ [ يونس : ١ ] على أحد القولين. وهنالك جعل الآيات قسمين : محكمًا ومتشابهًا، كما قال :﴿ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾ [ آل عمران : ٧ ]. وهذه المتشابهات مما أنزله الرحمن لا مما ألقاه الشيطان ونسخه اللّه. فصار المحكم في القرآن تارة يقابل بالمتشابه، والجميع من آيات اللّه، وتارة يقابل بما نسخه اللّه مما ألقاه الشيطان.
ومن الناس من يجعله مقابلاً لما نسخه اللّه مطلقًا، حتى يقول : هذه الآية محكمة ليست منسوخة، ويجعل المنسوخ ليس محكمًا، وإن كان اللّه أنزله أولا اتباعًا لظاهر قوله :﴿ فَيَنسَخُ اللَّهُ ﴾ ﴿ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ﴾
فهذه ثلاث معان تقابل المحكم، ينبغي التفطن لها.
وجماع ذلك : أن [ الإحكام ] تارة يكون في التنزيل، فيكون في مقابلته ما يلقيه الشيطان. فالمحكم المنزل من عند اللّه أحكمه اللّه أي : فصله من الاشتباه بغيره، وفصل منه ما ليس منه؛ فإن الإحكام هو الفصل والتمييز والفرق والتحديد الذي به يتحقق الشىء ويحصل إتقانه؛ ولهذا دخل فيه معنى المنع كما دخل في الحد، فالمنع جزء معناه لا جميع معناه.