ولكن لم ينف علمهم بمعناه وتفسيره، بل قال :﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ﴾ [ ص : ٢٩ ]، وهذا يعم الآيات المحكمات والآيات المتشابهات، وما لا يعقل له معنى لا يتدبر. وقال :﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ﴾ [ محمد : ٢٤ ]، ولم يستثن شيئًا منه نهى عن تدبره. واللّه ورسوله إنما ذم من اتبع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فأما من تدبر المحكم والمتشابه ـ كما أمره اللّه وطلب فهمه ومعرفة معناه ـ فلم يذمه اللّه، بل أمر بذلك ومدح عليه.
يبين ذلك أن التأويل قد روى أن من اليهود الذين كانوا بالمدينة على عهد النبي ﷺ ـ كحيى بن أخطب وغيره ـ من طلب من حروف الهجاء التي في أوائل السور تأويل بقاء هذه الأمة، كما سلك ذلك طائفة من المتأخرين موافقة للصابئة المنجمين، وزعموا أنه ستمائة وثلاثة وتسعون عامًا؛ لأن ذلك هو عدد ما للحروف في حساب الجمل بعد إسقاط المكرر، وهذا من نوع تأويل الحوادث التي أخبر بها القرآن في اليوم الآخر.
وروى أن من النصارى الذين وفدوا على النبي ﷺ في وفد نجران من تأول [ إنا ] و [ نحن ] على أن الآلهة ثلاثة لأن هذا ضمير جمع. وهذا تأويل في الإيمان باللّه، فأولئك تأولوا في اليوم الآخر، وهؤلاء تأولوا في اللّه. ومعلوم أن :[ إنا ] و [ نحن ] من المتشابه، فإنه يراد بها الواحد الذي معه غيره من جنسه، ويراد بها الواحد الذي معه أعوانه وإن لم يكونوا من جنسه، ويراد بها الواحد المعظم نفسه الذي يقوم مقام من معه غيره لتنوع أسمائه، التي كل اسم منها يقوم مقام مسمى، فصار هذا متشابهًا؛ لأن اللفظ واحد والمعنى متنوع.