و [ نكتة ذلك ] أن الخبر لمعناه صورة علمية وجودها في نفس العالم، كذهن الإنسان مثلاً، ولذلك المعنى حقيقة ثابتة في الخارج عن العلم، واللفظ إنما يدل ابتداء على المعنى الذهني ثم تتوسط ذلك أو تدل على الحقيقة الخارجة، فالتأويل هو الحقيقة الخارجة، وأما معرفة تفسيره ومعناه فهو معرفة الصورة العلمية، وهذا هو الذي بيناه فيما تقدم أن اللّه إنما أنزل القرآن ليعلم ويفهم ويفقه ويتدبر ويتفكر فيه محكمه ومتشابهه، وإن لم يعلم تأويله.
ويبين ذلك أن اللّه يقول عن الكفار :﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ﴾ [ الإسراء : ٤٥، ٤٦ ]، فقد أخبر ـ ذمًا للمشركين ـ أنه إذا قرئ عليهم القرآن حجب بين أبصارهم وبين الرسول بحجاب مستور، وجعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا. فلو كان أهل العلم والإيمان على قلوبهم أكنة أن يفقهوا بعضه لشاركوهم في ذلك، وقوله :﴿ أّن يّفًقّهٍوهٍ ﴾ يعود إلى القرآن كله، فعلم أن اللّه يحب أن يفقه؛ ولهذا قال الحسن البصري : ما أنزل اللّه آية إلا وهو يحب أن يعلم في ماذا أنزلت وماذا عني بها، وما استثنى من ذلك، لا متشابهًا ولا غيره.
وقال مجاهد : عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره مرات، أقف عند كل آية وأسأله عنها. فهذا ابن عباس حَبْر الأمة، وهو أحد من كان يقول : لا يعلم تأويله إلا اللّه، يجيب مجاهدًا عن كل آية في القرآن.


الصفحة التالية
Icon