وهذا هو الذي حمل مجاهدًا ومن وافقه كابن قتيبة على أن جعلوا الوقف عند قوله :﴿ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾ [ آل عمران : ٧ ] فجعلوا الراسخين يعلمون التأويل؛لأن مجاهدًا تعلم من ابن عباس تفسير القرآن كله وبيان معانيه، فظن أن هذا هو التأويل المنفي عن غير اللّه.
وأصل ذلك أن لفظ [ التأويل ] فيه اشتراك بين ما عناه اللّه في القرآن وبين ما كان يطلقه طوائف من السلف، وبين اصطلاح طوائف من المتأخرين، فبسبب الاشتراك في لفظ التأويل اعتقد كل من فهم منه معنى بلغته أن ذلك هو المذكور في القرآن. ومجاهد إمام التفسير. قال الثوري : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. وأما التأويل فشأن آخر.
ويبين ذلك أن الصحابة والتابعين لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب اللّه، ولا قال : هذه من المتشابه الذي لا يعلم معناه، ولا قال قط أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة المتبوعين : إن في القرآن آيات لا يعلم معناها ولا يفهمها رسول اللّه ﷺ ولا أهل العلم والإيمان جميعهم، وإنما قد ينفون علم بعض ذلك عن بعض الناس، وهذا لا ريب فيه.
وإنما وضع هذه المسألة ـ المتأخرون من الطوائف بسبب الكلام في آيات الصفات وآيات القدر وغير ذلك، فلقبوها :( هل يجوز أن يشتمل القرآن على مالا يعلم معناه ).
وأما ( تعبدنا بتلاوة حروفه بلا فهم ) فجوز ذلك طوائف متمسكين بظاهر من هذه الآية، وبأن اللّه يمتحن عباده بما شاء، ومنعها طوائف ليتوصلوا بذلك إلى تأويلاتهم الفاسدة التي هي تحريف الكلم عن مواضعه. والغالب على كلا الطائفتين الخطأ، أولئك يقصرون في فهم القرآن بمنزلة من قيل فيه :﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ ﴾ [ البقرة : ٧٨ ] وهؤلاء معتدون بمنزلة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه.


الصفحة التالية
Icon