ومن المتأخرين من وضع المسألة بلقب شنيع فقال :( لايجوز أن يتكلم اللّه بكلام ولا يعنى به شيئًا خلافًا للحشوية ). وهذا لم يقله مسلم أن اللّه يتكلم بما لا معنى له.
وإنما النزاع هل يتلكم بما لا يفهم معناه ؟ وبين نفي المعنى عند المتكلم ونفي الفهم عند المخاطب بَوْن عظيم.
ثم احتج بما لايجري على أصله فقال : هذا عبث، والعبث على اللّه محال. وعنده أن اللّه لا يقبح منه شىء أصلاً بل يجوز أن يفعل كل شىء، وليس له أن يقول : العبث صفة نقص، فهو منتف عنه؛ لأن النزاع في الحروف وهي عنده مخلوقة من جملة الأفعال، ويجوز أن يشتمل الفعل عنده على كل صفة، فلا نقل صحيح ولا عقل صريح.
ومثار الفتنة بين الطائفتين ومحار عقولهم : أن مدعى التأويل أخطؤوا في زعمهم أن العلماء يعلمون التأويل، وفي دعواهم أن التأويل هو تأويلهم الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه؛ فإن الأولين لعلمهم بالقرآن والسنن وصحة عقولهم، وعلمهم بكلام السلف وكلام العرب، علموا يقينًا أن التأويل الذي يدعيه هؤلاء ليس هو معنى القرآن؛ فإنهم حرفوا الكلم عن مواضعه، وصاروا مراتب ما بين قرامطة وباطنية يتأولون الأخبار والأوامر، وما بين صابئة فلاسفة يتأولون عامة الأخبار عن اللّه وعن اليوم الآخر حتى عن أكثر أحوال الأنبياء ـ وما بين جهمية ومعتزلة يتأولون بعض ما جاء في اليوم الآخر وفي آيات القدر ويتأولون آيات الصفات. وقد وافقهم بعض متأخري الأشعرية على ما جاء في بعض الصفات، وبعضهم في بعض ما جاء في اليوم الآخر وآخرون من أصناف الأمة، وإن كان تغلب عليهم السنة، فقد يتأولون أيضًا مواضع يكون تأويلهم من تحريف الكلم عن مواضعه.