أحدهما : أن الإنعام والإحسان وكشف الضر دل أيضًا على الرحمة كدلالة التخصيص على الإرادة. والتقريب والإدناء وأنواع التخصيص التي لا تكون إلا من المحب تدل على المحبة أو مطلق التخصيص يدل على الإرادة، وأما التخصيص بالإنعام فتخصيص خاص، والتخصيص بالتقريب والاصطفاء تقريب خاص، وما سلكه في مسلك الإرادة يسلك في مثل هذا.
الثاني : يقال له : هب أن العقل لا يدل على هذا، فإنه لا ينفيه إلا بمثل ما ينفي به الإرادة، والسمع دليل مستقل بنفسه، بل الطمأنينة إليه في هذه المضايق أعظم، ودلالته أتم، فلأي شيء نفيت مدلوله أو توقفت وأعدت هذه الصفات كلها إلى الإرادة، مع أن النصوص لم تفرق ؟ فلا يذكر حجة إلا عورض بمثلها في إثباته الإرادة زيادة على الفعل.
الثالث : يقال له : إذا قال لك الجهمي : الإرادة لا معنى لها إلا عدم الإكراه أو نفس الفعل والأمر به، وزعم أن إثبات إرادة تقتضي محذورًا إن قال بقدمها، ومحذورًا إن قال بحدوثها.
وهنا اضطربت المعتزلة، فإنهم لا يقولون بإرادة قديمة لامتناع صفة قديمة عندهم، ولا يقولون بتجدد صفة له لامتناع حلول الحوادث عند أكثرهم مع تناقضهم، فصاروا حزبين :
البغداديون ـ وهم أشد غلوًا في البدعة في الصفات وفي القدرـ نفوا حقيقة الإرادة. وقال الجاحظ : لا معنى لها إلا عدم الإكراه. وقال الكعبي : لا معنى لها إلا نفس الفعل إذا تعلقت بفعله ونفس الأمر إذا تعلقت بطاعة عباده.
والبصريون ـ كأبي على وأبي هاشم ـ قالوا : تحدث إرادة لا في محل، فلا إرادة، فالتزموا حدوث حادث غير مراد وقيام صفة بغير محل، وكلاهما عند العقلاء معلوم الفساد بالبديهة.