وكذلك الأئمة، كانوا إذا سئلوا عن شىء من ذلك لم ينفوا معناه، بل يثبتون المعنى وينفون الكيفية، كقول مالك بن أنس ـ لما سئل عن قوله تعالى :﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [ طه : ٥ ] كيف استوى، فقال : الاستواء معلوم، والكَيْفِ مَجْهُول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وكذلك ربيعة قبله. وقد تلقى الناس هذا الكلام بالقبول، فليس في أهل السنة من ينكره.
وقد بين أن الاستواء معلوم كما أن سائر ما أخبر به معلوم، ولكن الكيفية لا تعلم ولا يجوز السؤال عنها، لا يقال : كيف استوى. ولم يقل مالك : الكيف معدوم، وإنما قال : الكيف مجهول. وهذا فيه نزاع بين أصحابنا وغيرهم من أهل السنة، غير أن أكثرهم يقولون : لا تخطر كيفيته ببال، ولا تجري ماهيته في مقال، ومنهم من يقول : ليس له كيفية ولا ماهية.
فإن قيل : معنى قوله :( الاستواء معلوم ) : أن ورود هذا اللفظ في القرآن معلوم، كما قاله بعض أصحابنا الذين يجعلون معرفة معانيها من التأويل الذي استأثر اللّه بعلمه.
قيل : هذا ضعيف؛ فإن هذا من باب تحصيل الحاصل، فإن السائل قد علم أن هذا موجود في القرآن وقد تلا الآية. وأيضًا، فلم يقل : ذكر الاستواء في القرآن، ولا إخبار اللّه بالاستواء، وإنما قال : الاستواء معلوم. فأخبر عن الاسم المفرد أنه معلوم، لم يخبر عن الجملة.
وأيضًا، فإنه قال :( والكيف مجهول )، ولو أراد ذلك لقال : معنى الاستواء مجهول، أو تفسير الاستواء مجهول، أو بيان الاستواء غير معلوم، فلم ينف إلا العلم بكيفية الاستواء لا العلم بنفس الاستواء، وهذا شأن جميع ما وصف اللّه به نفسه، لو قال في قوله :﴿ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾ [ طه : ٤٦ ] كيف يسمع وكيف يرى ؟ لقلنا : السمع والرؤيا معلوم والكيف مجهول، ولو قال : كيف كلم موسى تكليمًا ؟ لقلنا : التكليم معلوم والكيف غير معلوم.


الصفحة التالية
Icon