ولهذا إذا روى الحديث الذي يتأتى فيه ذلك عن النبي ﷺ من وجهين، مع العلم بأن أحدهما لم يأخذه عن الآخر، جزم بأنه حق، لا سيما إذا علم أن نَقَلَتَه ليسوا ممن يتعمد الكذب، وإنما يخاف على أحدهم النسيان والغلط؛ فإن من عرف الصحابة ـ كابن مسعود وأبي بن كعب، وابن عمر، و جابر، وأبي سعيد، وأبي هريرة وغيرهم ـ علم يقينًا أن الواحد من هؤلاء لم يكن ممن يتعمد الكذب على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فضلاً عمن هو فوقهم، كما يعلم الرجل من حال من جربه وخبره خبرة باطنة طويلة أنه ليس ممن يسرق أموال الناس، ويقطع الطريق، ويشهد بالزور ونحو ذلك.
وكذلك التابعون بالمدينة ومكة، والشام والبصرة، فإن من عرف مثل أبي صالح السمان، والأعرج، وسليمان بن يسار، وزيد بن أسلم وأمثالهم، علم قطعًا أنهم لم يكونوا ممن يتعمد الكذب في الحديث، فضلا عمن هو فوقهم، مثل محمد بن سيرين، والقاسم بن محمد، أو سعيد بن المسيب، أو عبيدة السلماني، أو عَلْقَمة، أو الأسود أو نحوهم. وإنما يخاف على الواحد من الغلط؛ فإن الغلط والنسيان كثيرًا ما يعرض للإنسان، ومن الحفاظ من قد عرف الناس بعده عن ذلك جدًا، كما عرفوا حال الشعبي والزهري وعروة وقتادة والثوري وأمثالهم، لا سيما الزهري في زمانه، والثوري في زمانه، فإنه قد يقول القائل : إن ابن شهاب الزهري لا يعرف له غلط، مع كثرة حديثه وسعة حفظه.
والمقصود أن الحديث الطويل إذا روي ـ مثلا ـ من وجهين مختلفين، من غير مواطأة امتنع عليه أن يكون غلطًا، كما امتنع أن يكون كذبًا؛ فإن الغلط لا يكون في قصة طويلة متنوعة، وإنما يكون في بعضها، فإذا روى هذا قصة طويلة متنوعة ورواها الآخر مثلما رواها الأول من غير مواطأة امتنع الغلط في جميعها، كما امتنع الكذب في جميعها من غير مواطأة.