وما أعرف أحدًا أنشأ الإيمان فعلقه على المشيئة، فإذا علقه فإن كان مقصوده : أنا مؤمن إن شاء اللّه، أنا أومن بعد ذلك، فهذا لم يصر مؤمنًا، مثل الذي يقال له : هل تصير من أهل دين الإسلام ؟ فقال : أصير إن شاء اللّه، فهذا لم يسلم، بل هو باق على الكفر. وإن كان قصده : إني قد آمنت وإيماني بمشيئة اللّه صار مؤمنًا، لكن إطلاق اللفظ يحتمل هذا وهذا، فلا يجوز إطلاق مثل هذا اللفظ في الإنشاء، وأيضًا فإن الأصل أنه إنما يعلق بالمشيئة ما كان مستقبلا، فأما الماضي والحاضر فلا يعلق بالمشيئة، والذين استثنوا لم يستثنوا في الإنشاء كما تقدم، كيف وقد أمروا أن يقولوا :﴿ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ ﴾ [ البقرة : ١٣٦ ]، وقال تعالى :﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ﴾ [ البقرة : ٢٨٥ ]، فأخبر أنهم آمنوا فوقع الإيمان منهم قطعًا بلا استثناء.
وعلى كل أحد أن يقول : آمنا باللّه وما أنزل إلينا ـ كما أمر اللّه ـ بلا استثناء، وهذا متفق عليه بين المسلمين ما استثنى أحد من السلف قط في مثل هذا، وإنما الكلام إذا أخبر عن نفسه بأنه مؤمن كما يخبر عن نفسه بأنه بر، تقي. فقول القائل له : أنت مؤمن هو عندهم كقوله : هل أنت بَرٌّ تقي ؟ فإذا قال : أنا بر تقي، فقد زكى نفسه. فيقول : إن شاء اللّه، وأرجو أن أكون كذلك، وذلك أن الإيمان التام يتعقبه قبول اللّه له، وجزاؤه عليه، وكتابة الملك له، فالاستثناء يعود إلى ذلك لا إلى ما علمه هو من نفسه وحصل واستقر، فإن هذا لا يصح تعليقه بالمشيئة، بل يقال : هذا حاصل بمشيئة اللّه وفضله وإحسانه، وقوله فيه : إن شاء اللّه بمعني إذا شاء اللّه، وذلك تحقيق لا تعليق.