واعتبر ذلك بقوله :﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ [ الأنبياء : ٢٢ ]، ما أحسن هذا البرهان ! فلو قيل بعده : وما فسدتا فليس فيهما آلهة إلا الله لكان هذا من الكلام الغث الذى لا يناسب بلاغة التنزيل، وإنما ذلك من تأليف المعانى فى العقل مثل تأليف الأسماء من الحروف فى الهجاء والخط إذا علمنا الصبى الخط نقول :( با ) ( سين ) ( ميم ) صارت ( بسم )، فإذا عقل لم يصلح له بعد ذلك أن يقرأه تهجياً فيذهب ببهجة الكلام؛ بل قد صار التأليف مستقراً، وكذلك النحوى إذا عرف أن ( محمد رسول الله ) مبتدأ وخبر لم يلف كلما رفع مثل ذلك أن يقول لأنه مبتدأ وخبر. فتأليف الأسماء من الحروف لفظاً ومعنى، وتأليف الكلم من الأسماء، وتأليف الأمثال من الكلم جنس واحد.
ولهذا كان المؤلفون للأقيسة يتكلمون أولاً فى مفردات الألفاظ والمعانى التى هى الأسماء، ثم يتكلمون فى تأليف الكلمات من الأسماء الذى هو الخبر والقضية والحكم، ثم يتكلمون فى تأليف الأمثال المضروبة الذى هو ( القياس ) و ( البرهان ) و ( الدليل ) و ( الآية ) و ( العلامة ). فهذا مما ينبغى أن يتفطن له، فإن من أعظم كمال القرآن تركه فى أمثاله المضروبة وأقيسته المنصوبة لذكر المقدمة الجلية الواضحة المعلومة، ثم اتباع ذلك بالأخبار عن النتيجة التى قد علم من أول الكلام أنها هى المقصود؛ بل إنما يكون ضرب المثل بذكر ما يستفاد ذكره وينتفع بمعرفته، فذلك هو البيان، وهو البرهان، وأما ما لا حاجة إلى ذكره فذكره عىٌّ.
وبهذا يظهر لك خطأ قوم من البيانيين الجهال والمنطقيين الضُّلال حيث قال بعض أولئك : الطريقة الكلامية البرهانية فى أساليب البيان ليست فى القرآن إلا قليلا، وقال الثانى : إنه ليس فى القرآن برهان تام، فهؤلاء من أجهل الخلق باللفظ والمعنى، فإنه ليس فى القرآن إلا الطريقة البرهانية المستقيمة لمن عَقَل وتدبر.


الصفحة التالية
Icon