ولا يقتضى أنه يغفر ويعذب بلا حكمة ولا عدل، كما قد يظنه من يظنه من الناس، حتى يجوزوا أنه يعذب على الأمر اليسير من السيئات مع كثرة الحسنات وعظمها، وأن الرجلين اللذين لهما حسنات وسيئات يغفر لأحدهما مع كثرة سيئاته وقلة حسناته، ويعاقب الآخر على السيئة الواحدة مع كثرة حسناته، ويجعل درجة ذاك فى الجنة فوق درجة الثانى.
وهؤلاء يجوزون أن يعذب اللّه الناس بلا ذنب، وأن يكلفهم ما لا يطيقون ويعذبهم على تركه، والصحابة إنما هربوا وخافوا أن يكون الأمر من هذا الجنس، فقالوا : لا طاقة لنا بهذا؛ فإنه إن كلفنا ما لا نطيق عذبنا، فنسخ اللّه هذا الظن، وبين أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها، وبين بطلان قول هؤلاء الذين يقولون : إنه يكلف العبد ما لا يطيقه، ويعذبه عليه، وهذا القول لم يعرف عن أحد من السلف والأئمة، بل أقوالهم تناقض ذلك، حتى إن سفيان بن عيينة سئل عن قوله :﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ]، قال : إلا يسرها، ولم يكلفها طاقتها. قال البغوى : وهذا قول حسن؛لأن الوسع ما دون الطاقة، وإنما قاله طائفة من المتأخرين لما ناظروا المعتزلة فى ( مسائل القدر ) وسلك هؤلاء مسلك الجبر، جَهْم وأتباعه، فقالوا هذا القول وصاروا فيه على مراتب، وقد بسط هذا فى غير هذا الموضع.
قال ابن الأنبارى فى قوله :﴿ وَلاَتُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ] أى : لا تحملنا ما يثقل علينا أداؤه وإن كنا مطيقين له على تَجشُّم وتحمل مكروه، قال : فخاطب العرب على حسب ما تعقل؛ فإن الرجل منهم يقول للرجل : ما أطيق النظر إليك، وهومطيق لذلك، لكنه ثقيل عليه النظر إليه قال : ومثله قوله :﴿ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ ﴾ [ هود : ٢٠ ].