قلت : ليست هذه لغة العرب وحدهم، بل هذا مما اتفق عليه العقلاء. والاستطاعة فى الشرع هى ما لا يحصل معه للمكلف ضرر راجح، كاستطاعة الصيام والقيام، فمتى كان يزيد فى المرض أو يؤخر البرء لم يكن مستطيعاً؛ لأن فى ذلك مضرة راجحة، بخلاف هؤلاء فإنهم كانوا لا يستطيعون السمع لبغض الحق وثقله عليهم؛إما حسداً لقائله، وإما اتباعاً للهوى ورين الكفر والمعاصى على القلوب، وليس هذا عذراً، فلو لم يأمر العباد إلا بما يهوونه لفسدت السموات والأرض ومن فيهن.
والمقصود أن السلف لم يكن فيهم من يقول : إن العبد لا يكون مستطيعاً إلا فى حال فعله، وأنه قبل الفعل لم يكن مستطيعاً، فهذا لم يأت الشرع به قط، ولا اللغة، ولا دل عليه عقل، بل العقل يدل على نقيضه، كما قد بسط فى غير هذا الموضع.
والرب ـ تعالى ـ يعلم أن العبد لا يفعل الفعل مع أنه مستطيع له، والمعلوم أنه لا يفعله، ولا يريده لا أنه لا يقدر عليه، والعلم يطابق المعلوم، فاللّه يعلم ممن استطاع الحج والقيام والصيام أنه مستطيع، ويعلم أن هذا مستطيع يفعل مستطاعه، فالمعلوم هو عدم الفعل لعدم إرادة العبد، لا لعدم استطاعته، كالمقدورات له التى يعلم أنه لا يفعلها لعدم إرادته لها لا لعدم قدرته عليها، والعبد قادر على أن يفعل، وقد علم اللّه أنه لا يفعل مع القدرة؛ ولهذا يعذبه لأنه إنما أمره بما استطاع لا بما لا يستطيع، ومن لم يستطع لم يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطعه.
وإذا قيل : فيلزم أن يكون قادراً على تغيير علم اللّه؛ لأن اللّه علم أنه لا يفعل، فإذا قدر على الفعل قدر على تغيير علم اللّه.