فتضمنت هذه الكلمات كمال إيمانهم، وكمال قبولهم، وكمال انقيادهم، ثم قالوا ﴿ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [ البقرة : ٢٨٥ ] لما علموا أنهم لم يوفوا مقام الإيمان حقه مع الطاعة والانقياد الذى يقتضيه منهم، وأنهم لابد أن تميل بهم غلبات الطباع ودواعى البشرية إلى بعض التقصير فى واجبات الإيمان، وأنه لا يلم شَعْْثَ ذلك إلا مغفرة اللّه ـ تعالى ـ لهم، سألوه غفرانه الذى هو غاية سعادتهم، ونهاية كمالهم؛ فإن غاية كل مؤمن المغفرة من اللّه ـ تعالى ـ فقالوا :﴿ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ﴾ ثم اعترفوا أن مصيرهم ومردهم إلى مولاهم الحق لابد لهم من الرجوع إليه فقالوا :﴿ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾.
فتضمنت هذه الكلمات إيمانهم به، ودخولهم تحت طاعته وعبوديته، واعترافهم بربوبيته، واضطرارهم إلى مغفرته، واعترافهم بالتقصير فى حقه، وإقرارهم برجوعهم إليه.
ثم قال تعالى :﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ]، فنفى بذلك ما توهموه من أنه يعذبهم بالخطرات التى لا يملكون دفعها، وأنها داخلة تحت تكليفه، فأخبرهم أنه لا يكلفهم إلا وسعهم، فهذا هو البيان الذى قال فيه ابن عباس وغيره : فنسخها اللّه عنهم بقوله :﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾، وقد تضمن ذلك أن جميع ما كلفهم به أمراً ونهيا فهم مطيقون له قادرون عليه، وأنه لم يكلفهم ما لا يطيقون، وفى ذلك رد صريح على من زعم خلاف ذلك.
والله ـ تعالى ـ أمرهم بعبادته، وضمن أرزاقهم، فكلفهم من الأعمال ما يسعونه، وأعطاهم من الرزق ما يسعهم، فتكليفهم يسعونه، وأرزاقهم تسعهم، فهم في الوُسْع فى رزقه وأمره؛ وسعوا أمره ووسعهم رزقه، ففرق بين ما يسع العبد وما يسعه العبد، وهذا هو اللائق برحمته وبره وإحسانه وحكمته وغناه، لا قول من يقول : إنه كلفهم ما لا قدرة لهم عليه البتة ولا يطيقونه، ثم يعذبهم على ما لا يعملونه.


الصفحة التالية
Icon