وتأمل قوله ـ عز وجل :﴿ إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ كيف تجد تحته أنهم فى سعة ومنحة من تكاليفه، لا في ضيق وحرج ومشقة؛ فإن الوسع يقتضى ذلك، فاقتضت الآية أنّ ما كلفهم به مقدور لهم من غير عسر لهم ولا ضيق ولا حرج، بخلاف ما يقدر عليه الشخص فإنه قد يكون مقدوراً له ولكن فيه ضيق وحرج عليه، وأما وسعه الذى هو منه فى سعة فهو دون مدى للطاقة والمجهود؛ بل لنفسه فيه مجال ومتسع، وذلك منافٍ للضيق والحرج ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [ الحج : ٧٨ ]، بل يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر. قال سفيان بن ـ عيينة ـ في قوله :﴿ إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ : إلا يسرها لا عسرها، ولم يكلفها طاقتها، ولو كلفها طاقتها لبلغ المجهود.
فهذا فَهْم أئمة الإسلام، وأين هذا من قول من قال : إنه كلفهم ما لا يطيقونه البتة، ولا قدرة لهم عليه ؟ ثم أخبر ـ تعالى ـ أن ثمرة هذا التكليف وغايته عائدة عليهم، وأنه ـ تعالى ـ يتعالى عن انتفاعه بكسبهم وتضرره باكتسابهم، بل لهم كسبهم ونفعه، وعليهم اكتسابهم وضرره، فلم يأمرهم بما أمرهم به حاجة منه إليهم، بل رحمة وإحساناً وتكرماً، ولم ينههم عما نهاهم عنه بخلا منه عليهم، بل حمية وحفظاً وصيانة وعافية.
وفيه ـ أيضاً ـ أن نفساً لا تعذب باكتساب غيرها، ولا تثاب بكسبه، ففيه معنى قوله :﴿ وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴾ [ النجم : ٣٩ ]، ﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [ الأنعام : ١٦٤، الإسراء : ١٥، فاطر : ١٨ ].
وفيه ـ أيضاً ـ إثبات كسب النفس المنافى للجبر.


الصفحة التالية
Icon