وفيه ـ أيضاً اجتماع الحكمة فيه، فإما كسب خيراً أو اكتسب شراً، لم يبطل اكتسابه كسبه، كما يقوله أهل الإحباط والتخليد، فإنهم يقولون : إن عليه ما اكتسب وليس له ما كسب، فالآية رد على جميع هذه الطوائف، فتأمل كيف أتى فيما لها بالكسب الحاصل ولو لأدنى ملابسة، وفيما عليها بالاكتساب الدال على الاهتمام والحرص والعمل؛ فإن ( اكتسب ) أبلغ من ( كسب )، ففى ذلك تنبيه على غلبة الفضل للعدل، والرحمة للغضب.
ثم لما كان ما كلفهم به عهوداً منه ووصايا، وأوامر تجب مراعاتها والمحافظة عليها، وألا يخل بشىء منها؛ ولكن غلبات الطباع البشرية تأبى إلا النسيان والخطأ والضعف والتقصير أرشدهم الله ـ تعالى ـ إلى أن يسألوه مسامحته إياهم فى ذلك كله، ورفع موجبه عنهم بقولهم :﴿ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ]، أى : لا تكلفنا من الآصار التى يثقل حملها ما كلفته من قبلنا؛ فإنا أضعف أجساداً وأقل احتمالا.
ثم لما علموا أنهم غير منفكين مما يقضيه ويقدره عليهم، كما أنهم غير منفكين عما يأمرهم به وينهاهم عنه، سألوه التخفيف فى قضائه وقدره، كما سألوه التخفيف فى أمره ونهيه، فقالوا :﴿ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ فهذا فى القضاء والقدر والمصائب، وقولهم :﴿ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ﴾ في الأمر والنهى والتكليف، فسألوه التخفيف فى النوعين.