والمعتزلة تنكر الحكمة الناشئة من نفس الأمر؛ ولهذا لم يجوزوا النسخ قبل التمكن، وقد وافقهم على ذلك طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم، كأبى الحسن التميمى [ هو أبو الحسن عبد العزيز بن الحارث بن آسد بن الليث التميمى، فقيه حنبلى، له إطلاع على مسائل الخلاف. صنف كتبا فى الآصول والفرائع، ولد سنة ٣١٧هـ، وتوفى سنة ٣٧١هـ ]، وبنوه على أصلهم، وهو أن الأمر عندهم كاشف عن حسن الفعل الثابت فى نفسه لا مثبت لحسن الفعل، وأن الأمر لا يكون إلا بحسن، وغلطوا فى المقدمتين، فإن الأمر وإن كان كاشفا عن حسن الفعل فالفعل بالأمر يصير له حسن آخر غير الحسن الأول، وإذا كان مقصود الآمر الامتحان للطاعة فقد يأمر بما ليس بحسن فى نفسه وينسخه قبل التمكن إذا حصل المقصود من طاعة المأمور وعزمه وانقياده، وهذا موجود فى أمر الله وأمر الناس بعضهم بعضا.
والجهمية تنكر أن يكون فى الفعل حكمة أصلا فى نفسه ولا فى نفس الأمر بناء على أصلهم : أنه لا يأمر لحكمة، وعلى أن الأفعال بالنسبة إليه سواء، ليس بعضها حسنا وبعضها قبيحا، وكلا الأصلين قد وافقتهم عليه الأشعرية ومن اتبعهم من الفقهاء، كأصحاب الشافعى ومالك وأحمد وغيرهم، وهما أصلان مبتدعان؛ فإن مذهب السلف والأئمة أن الله يخلق لحكمة ويأمر لحكمة، ومذهب السلف والأئمة أن اللّه يحب الإيمان والعمل الصالح ويرضى ذلك، ولا يحب الكفر والفسوق والعصيان، وإن كان قد شاء وجود ذلك، وقد بسط هذا فى موضع آخر.
وقد قال تعالى :﴿ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ ﴾ [ البقرة : ٥٨ ]، فإن نفس السجود خضوع للّه، ولو فعله الإنسان للّّه مع عدم علمه أنه أمر به انتفع، كالسحرة الذين سجدوا قبل الأمر بالسجود.


الصفحة التالية
Icon