وصار ذلك سبباً لمنعهم كثيراً من الطيبات، وصاروا يختصمون فى متعة الحج ونحوها مما لم تكن فيه خصومة على عهد عمر، فطائفة تمنع المتعة مطلقاً كابن الزبير، وطائفة تمنع الفسخ كبنى أمية وأكثر الناس، وصاروا يعاقبون مَنْ تمتع، وطائفة أخرى توجب المتعة، وكل منهم لا يقصد مخالفة الرسول، بل خفي عليهم العلم، وكان ذلك سببه ما حدث من الذنوب، كما قال ﷺ :( خرجتُ لأخبركم بليلة القَدْر فَتَلاَحا رجلان، فُرفِعَتْ، لعل ذلك أن يكون خيراً لكم ). أى قد يكون إخفاؤها خيراً لكم لتجتهدوا فى ليالى العشر كلها؛ فإنه قد يكون إخفاء بعض الأمور رحمة لبعض الناس.
والنزاع فى الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يفض إلى شر عظيم من خفاء الحكم؛ ولهذا صنف رجل كتابا سماه ( كتاب الاختلاف ) فقال أحمد : سَمِّه ( كتاب السعة ) وإن الحق فى نفس الأمر واحد، وقد يكون من رحمة اللّه ببعض الناس خفاؤه لما فى ظهوره من الشدة عليه، ويكون من باب قوله تعالى :﴿ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ [ المائدة : ١٠١ ].
وهكذا ما يوجد فى الأسواق من الطعام والثياب قد يكون فى نفس الأمر مغصوبا، فإذا لم يعلم الإنسان بذلك كان كله له حلالا لا إثم عليه فيه بحال، بخلاف ما إذا علم، فخفاء العلم بما يوجب الشدة قد يكون رحمة، كما أن خفاء العلم بما يوجب الرخصة قد يكون عقوبة، كما أن رفع الشك قد يكون رحمة، وقد يكون عقوبة، والرخصة رحمة وقد يكون مكروه النفس أنفع كما فى الجهاد :﴿ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢١٦ ].
والمقصود هنا أن من الذنوب ما يكون سبباً لخفاء العلم النافع أو بعضه؛ بل يكون سبباً لنسيان ما علم، ولاشتباه الحق بالباطل تقع الفتن بسبب ذلك.