والباطنية ـ المنكرون لخلق العالم فى ستة أيام، ومعاد الأبدان ـ الذين يجعلون للقرآن تأويلا يوافق قولهم، عندهم ما ثَمَّ ( جَنَّة ) إلا لذة ما تتصف بها النفس من العلم والأخلاق الحميدة، وما ثَمَّ ( نار ) إلا ألم ما تتصف به النفس من الجهل والأخلاق الذميمة السيئة، فنار النفوس ألمها القائم بها كحسراتها لفوات العلم، أو لفوات الدنيا المحبوبة لها، وحجبها إنما هى ذنوبها.
وهذا الكلام مما يذكره أبو حامد فى ( المضنون به على غير أهله )، لكن قد يقول هذا : ليس هو عذاب القبر المذكور فى الأجسام، بل ذاك أمر آخر مما بينه أهل السنة، ولا نعيم عندهم إلا ما يقوم بالنفس من هذا؛ولهذا ليس عندهم نعيم منفصل عن النفس ولا عذاب.
وهذا القول من أفسد الأقوال شرعًا وعقلا؛ فإن الناس فى الدنيا يثابون ويعاقبون بأمور منفصلة عنهم، فكيف فى دار الجزاء ؟ ولكن الذى أثبتوه من هذا وهذا منه ما هو حق، ولكن الباطل جحدهم ما جحدوه مما أخبر الله به ورسوله، فهؤلاء عندهم أن آدم لم يكن إلا فى جنة العلم، وهبوطه انخفاض درجته فى العلم، وهذا كذب، ولكن ما أثبتوه من الحق حق، وقصة آدم تدل عليه بطريق الاعتبار الذي تسميه الصوفية الإشارة، لا أنه هو المراد بالآية، لكن قد دل عليه آيات أخر تدل على أن من كذب بالحق عوقب بأن يطبع على قلبه فلا يفهم العلم، أو لا يفهم المراد منه، وأنه يسلط عليه عدوه ويجد ذلاً، كما قال تعالى عن اليهود :﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ﴾ [ البقرة : ٦١ ]، ﴿ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴾ [ البقرة : ٦١ ].
ولا ريب أن لذة العلم أعظم اللذات، واللذة التى تبقى بعد الموت وتنفع فى الآخرة هى لذة العلم بالّله والعمل له، وهو الإيمان به، وهم يجعلون ذلك الوجود المطلق.


الصفحة التالية
Icon