ومعلوم أنه ليس فى شىء من ذلك إثبات لحكمته؛ فإن القادر والعالم والمريد قد يكون حكيمًا وقد لا يكون، والحكمة أمر زائد على ذلك، وهم ويقولون : إن الله لا يفعل لحكمة، ويقولون أيضاً : الفعل لغرض إنما يكون ممن ينتفع ويتضرر، ويتألم ويلتذ؛ وذلك ينفى عن الله.
والمعتزلة أثبتوا أنه يفعل لحكمة، وسموا ذلك غرضاً، هم وطائفة من المثبتة؛ لكن قالوا : الحكمة أمر منفصل عنه لا يقوم به، كما قالوا فى كلامه وإرادته، فاستطال عليهم المجبرة بذلك، فقالوا : الحكيم : من يفعل لحكمة تعود إلى نفسه، فإن لم تعد إلى نفسه لم يكن حكيماً بل كان سفيهاً.
فيقال للمجبرة : ما نفيتم به الحكمة هو بعينه حجة من نفى الإرادة من المتفلسفة ونحوهم، قالوا : الإرادة لا تكون إلا لمن ينتفع ويتضرر، ويتألم ويلتذ، وإثبات إرادة بدون هذا لا يعقل، وأنتم تقولون : نحن موافقون للسلف وسائر أهل السنة على إثبات الإرادة، فما كان جوابا لكم عن هذا السؤال فهو جواب سائر أهل السنة لكم، حيث أثبتم إرادة بلا حكمة يراد الفعل لها. وقد بسط هذا فى غير هذا الموضع، وبين ما فى لفظ هذه الحجة من الكلمات المجملة، والله أعلم.

فصل


وإثبات شهادة أولى العلم يتضمن أن الشهادة له بالوحدانية يشهد بها له غيره من المخلوقين؛ الملائكة والبشر، وهذا متفق عليه، يشهدون أن لا إله إلا الله، ويشهدون بما شهد به لنفسه.
وزعم طائفة من الاتحادية أنه لا يوحد أحد الله وأنشدوا :
ما وحد الواحد من واحد ** إذ كل من وحده جاحد
وهؤلاء حقيقة قولهم من جنس قول النصارى فى المسيح، يدعون أن حقيقة التوحيد أن يكون الموحِّد هو الموحَّد؛ فيكون الحق هو الناطق على لسان العبد، و الله الموحد لنفسه لا العبد، وهذا ـ فى زعمهم ـ هو السر الذى كان الحَّلاج يعتقده، وهو بزعمهم قول خواص العارفين، لكن لا يصرحون به.


الصفحة التالية
Icon