فتبين له أن الحق مع أهل الإثبات، وأن الله ـ سبحانه ـ فوق سمواته، وعلم ذلك بالضرورة، رأيت هذه الحكاية بخط القاضي نجم الدين أحمد بن محمد بن خلف المقدسي، وذكر أن الشيخ الكبيري حكاها له، وكان قد حدثني بها عنه غير واحد حتى رأيتها بخطه، وكلام المشايخ في مثل هذا كثير، وهذا الوصف الذي ذكره الشيخ جواب لهم بحسب ما يعرفون، فإنهم قد قسموا العلم إلى ضروري ونظري، والنظري مستند إلى الضروري، والضروري هو العلم الذي يلزم نفس المخلوق لزومًا لا يمكنه معه الانفكاك عنه، هذا حد القاضي أبي بكر بن الطيب وغيره. فخاصته أنه يلزم النفس لزومًا لا يمكن مع ذلك دفعه، فقال لهم : علم اليقين عندنا هو من هذا الجنس، وهو علم يلزم النفس لزومًا لا يمكنه مع ذلك الانفكاك عنه، وقال : واردات؛ لأنه يحصل مع العلم طمأنينة وسكينة توجب العمل به، فالواردات تحصل بهذا وهذا، وهذا قد أقر به كثير من حذاق النظار، متقدميهم كالكيا الهراسي والغزالي وغيرهما ـ ومتأخريهم ـ كالرازي والآمدي ـ وقالوا : نحن لا ننكر أن يحصل لناس علم ضروري بما يحصل لنا بالنظر، هذا لا ندفعه، لكن إن لم يكن علمًا ضروريًا فلابد له من دليل، والدليل يكون مستلزمًا للمدلول عليه، بحيث يلزم من انتفاء الدليل انتفاء المدلول عليه. قالوا : فإن كان لو دفع ذلك الاعتقاد الذي حصل له لزم دفع شىء مما يعلم بالضرورة، فهذا هو الدليل، وإن لم يكن كذلك فهذا هَوَس لا يلتفت إليه، وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود أن هذا الجنس واقع، لكن يقع أيضًا ما يظن أنه منه كثير. أو لا يميز كثير منهم الحق من الباطل، كما يقع في الأدلة العقلية والسمعية. فمن هؤلاء من يسمع خطابًا أو يرى من يأمره بقضية ويكون ذلك الخطاب من الشيطان، ويكون ذلك الذي يخاطبه الشيطان وهو يحسب أنه من أولياء اللّه من رجال الغيب.


الصفحة التالية
Icon