والاجتهاد في ( تحقيق المناط ) مما اتفق المسلمون عليه، ولابد منه كحكم ذوي عدل بالمثل في جزاء الصيد، وكالاستدلال على الكعبة عند الاشتباه ونحو ذلك، فلا يقطع به الإنسان، بل يجوز أن تكون القبلة في غير جهة اجتهاده، كما يجوز إذا حكم أن يكون قد قضى لأحدهما بشىء من حق الآخر، وأدلة الأحكام لابد فيها من هذا؛ فإن دلالة العموم في الظواهر قد تكون محتملة للنقيض، وكذلك خبر الواحد والقياس، وإن كان قوم نازعوا في القياس، فالفقهاء منهم لم ينازعوا في خبر الواحد كالظاهرية، ومن نازع في هذا وهذا لم ينازع في العموم كالمعتزلة البغداديين، وإن نازع في العموم والقياس منازع، كبعض الرافضة مثل الموسوي ونحوه لم ينازع في الأخبار؛ فإن الإمامية عمدتهم على ما نقل عن الاثنى عشر، فلابد لهم من الرواية، ولا يوجد من يستغنى عن الظواهر والأخبار والأقيسة، بل لابد أن يعمل ببعض ذلك مع تجويز نقيضه، وهذا عمل بالظن، والقرآن قد حرم اتباع الظن.
وقد تنوعت طرق الناس في جواز هذا؛ فطائفة قالت : لا يتبع قط إلا العلم ولا يعمل بالظن أصلا، وقالوا : إن خبر الواحد يفيد العلم، وكذلك يقولون في الظواهر، بل يقولون : نقطع بخطأ من خالفنا، وننقض حكمه، كما يقوله داود وأصحابه، وهؤلاء عمدتهم إنما هو ما يظنونه ظاهرًا. وأما الاستصحاب، فالاستصحاب ـ في كثير من المواضع ـ من أضعف الأدلة وهم في كثير مما يحتجون به قد لا يكون ما احتجوا به ظاهر اللفظ، بل الظاهر خلافه، فطائفة قالت : لما قام الدليل على وجوب العمل بالظن الراجح كنا متبعين للعلم، فنحن نعمل بالعلم عند وجود العلم، لا نعمل بالظن. وهذه طريقة القاضي أبي بكر وأتباعه.
وهنا السؤال المشهور في [ حد الفقه ] : إنه العلم بالأحكام الشرعية العملية. وقال الرازي : العلم بالأحكام الشرعية العملية المستدل على أعيانها بحيث لا يعلم كونها من الدين ضرورة قال :
فإن قلت : الفقه من باب الظنون فكيف جعلته علمًا ؟