أما الأول : فالجواب الصحيح هو الجواب الثالث، وهو أن كل ما أمر اللّه تعالى به فإنما أمر بالعلم، وذلك أنه في المسائل الخفية عليه أن ينظر في الأدلة، ويعمل بالراجح، وكون هذا هو الراجح أمر معلوم عند أمر مقطوع به، وإن قدر أن ترجيح هذا على هذا فيه شك عنده لم يعمل به، وإذا ظن الرجحان فإنما ظنه لقيام دليل عنده على أن هذا راجح، وفرق بين اعتقاد الرجحان ورجحان الاعتقاد، أما اعتقاد الرجحان فقد يكون علمًا وقدلا يعمل حتى يعلم الرجحان، وإذا ظن الرجحان أيضًا فلابد أن يظنه بدليل يكون عنده أرجح من دليل الجانب الآخر، ورجحان هذا غير معلوم، فلابد أن ينتهي الأمر إلى رجحان معلوم عنده، فيكون متبعًا لما علم أنه أرجح، وهذا اتباع للعلم لا للظن وهو اتباع الأحسن، كما قال :﴿ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا ﴾ [ الأعراف : ١٤٥ ]، وقال :﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ﴾ [ الزمر : ١٨ ]، وقال :﴿ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم ﴾ [ الزمر : ٥٥ ]. فإذا كان أحد الدليلين هو الأرجح فاتباعه هو الأحسن، وهذا معلوم.
فالواجب على المجتهد أن يعمل بما يعلم أنه أرجح من غيره، وهو العمل بأرجح الدليلين المتعارضين. وحينئذ، فما عمل إلا بالعلم وهذا جواب الحسن البصري، وأبيّ وغيرهم. والقرآن ذم من لا يتبع إلا الظن فلم يستند ظنه إلى علم بأن هذا أرجح من غيره؛ كما قال :﴿ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ ﴾ [ النساء : ١٥٧ ]، وقال :{ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ


الصفحة التالية
Icon