الظَّنَّ } [ الأنعام : ١٤٨ ]، وهكذا في سائر المواضع يذم الذين إن يتبعون إلا الظن، فعندهم ظن مجرد لا علم معه، وهم يتبعونه، والذي جاءت به الشريعة وعليه عقلاء الناس أنهم لا يعملون إلا بعلم بأن هذا أرجح من هذا، فيعتقدون الرجحان اعتقادًا عمليًا، لكن لا يلزم إذا كان أرجح ألا يكون المرجوح هو الثابت في نفس الأمر.
وهذا كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال :( ولعل بعضكم أن يكون ألْحن بحجته من بعض، وإنما أقضى بنحو مما أسمع )، فإذا أتى أحد الخصمين بحجة، مثل بينة تشهد له، ولم يأت الآخر بشاهد معها، كان الحاكم عالمًا بأن حجة هذا أرجح، فما حكم إلا بعلم، لكن الآخر قد يكون له حجة لا يعلمها أو لا يحسن أن يبينها، مثل أن يكون قد قضاه أو أَبرأه، وله بينة تشهد بذلك، وهو لا يعلمها، أو لا يذكرها، أو لا يجسر أن يتكلم بذلك، فيكون هو المضيع لحقه، حيث لم يبين حجته، والحاكم لم يحكم إلا بعلم وعدل، وضياع حق هذا كان من عجزه وتفريطه لا من الحاكم.
وهكذا أدلة الأحكام، فإذا تعارض خبران، أحدهما مسند ثابت والآخر مرسل، كان المسند الثابت أقوى من المرسل، وهذا معلوم؛ لأن المحدث بهذا قد علم عدله وضبطه، والآخر لم يعلم عدله ولا ضبطه، كشاهدين زكى أحدهما ولم يزك الآخر، فهذا المزكى أرجح، وإن جاز أن يكون في نفس الأمر قول الآخر هو الحق، لكن المجتهد إنما عمل بعلم، وهو علمه برجحان هذا على هذا، ليس ممن لم يتبع إلا الظن، ولم يكن تبين له إلا بعد الاجتهاد التام فيمن أرسل ذلك الحديث، وفي تزكية هذا الشاهد، فإن المرسل قد يكون راويه عدلاً حافظًا، كما قد يكون هذا الشاهد عدلا.


الصفحة التالية
Icon