والذين يحرمون ما أحل اللّه من الطيبات ـ وإن كانوا يقولون : إن الله لم يحرم هذا، بل يلتزمون ألا يفعلوه، إما بالنذر وإما باليمين، كما حرم كثير من العباد والزهاد أشياء ـ يقول أحدهم : للّه على ألا آكل طعاماً بالنهار أبداً، ويعاهد أحدهم ألا يأكل الشهوة الملائمة، ويلتزم ذلك بقصده وعزمه، وإن لم يحلف ولم ينذر، فهذا يلتزم ألا يشرب الماء، وهذا يلتزم ألا يأكل الخبز، وهذا يلتزم ألا يشرب الفقاع، وهذا يلتزم ألا يتكلم قط، وهذا يجب نفسه، وهذا يلتزم ألا ينكح ولا يذبح. وأنواع هذه الأشياء من الرهبانية التى ابتدعوها على سبيل مجاهدة النفس، وقهر الهوى والشهوة.
ولا ريب أن مجاهدة النفس مأمور بها، وكذلك قهر الهوى والشهوة، كما ثبت عن النبى ﷺ أنه قال :( المجاهد من جاهد نفسه فى ذات الله، والكَيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتْبَعَ نفسه هواها، وتَمَنى على اللّه )، لكن المسلم المتبع لشريعة الإسلام هو المحرم ما حرمه اللّه ورسوله، فلا يحرم الحلال ولا يسرف فى تناوله، بل يتناول ما يحتاج إليه من طعام أو لباس أو نكاح، ويقتصد فى ذلك، ويقتصد فى العبادة، فلا يحمل نفسه ما لا تطيق.
فهذا تجده يحصل له من مجاهدات النفس وقهر الهوى ما هو أنفع له من تلك الطريق المبتدعة الوعرة القليلة المنفعة، التى غالب من سلكها ارتد على حافره، ونقض عهده، ولم يرعها حق رعايتها. وهذا يثاب على ذلك ما لا يثاب على سلوك تلك الطريق، وتزكو به نفسه، وتسير به إلى ربه، ويجد بذلك من المزيد فى إيمانه ما لا يجده أصحاب تلك الطريق؛ فإنهم لابد أن تدعوهم أنفسهم إلى الشهوات المحرمة؛ فإنه ما من بنى آدم إلا من أخطأ أو هَمَّ بخطيئة إلا يحيى بن زكريا، وقد قال تعالى :﴿ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [ النساء : ٢٨ ].