وإن شكا إلى غيره لما في الشكوى من الراحة، كما يشكو من الراحة، كما يشكو المصاب مصيبته إلى الناس من غير أن يقصد، تعلم ما ينفعه ولا الاستعانة على مصيبته، فهذا ينقص صبره، لكن لا يأثم مطلقاً، إلا إذا اقترن به ما يحرم، كالمصاب الذى يتسخط.
والثانى : أن يكتم ذلك فلا يتحدث به مع الناس؛ لما فى ذلك من إظهار السوء والفاحشة؛فإن النفوس إذا سمعت مثل هذا تحركت، وتَشَهَّتْ وتَمَنَّتْ وتَتَيَّمَتْ [ أى : عشقت وأحبّتْ. انظر : القاموس، مادة : تيم ]. والإنسان متى رأى أو سمع أو تخيل من يفعل ما يشتهيه كان ذلك داعياً له إلى الفعل والتشبه به، والنساء متى رأين البهائم تَنْزُو [ أى : تثب وتعلو. انظر : القاموس، مادة : نزا ] الذكور منها على الإناث ملن إلى الباءة والمجامعة، والرجل إذا سمع من يفعل مع المردان والنساء ورأى ذلك أو تخيله فى نفسه دعاه ذلك إلى الفعل، وإذا ذكر للإنسان طعام اشتهاه ومال إليه، وإن وصف له ما يشتهيه من لباس أو امرأة أو مسكن أو غيره مالت نفسه إليه، والغريب عن وطنه متى ذكر بالوطن حَنَّّ إليه، وكل ما فى نفس الإنسان محبته إذا تصوره تحركت المحبة والطلب إلى ذلك المحبوب المطلوب؛ إما إلى وصفه، وإما إلى مشاهدته، وكلاهما يحصل به تخيل فى النفس، وقد يحصل التخيل بالسماع أو الرؤية أو الفكر فى بعض الأمور المتعلقة به، فإذا تخيلت النفس تلك الأمور المتعلقة انقلبت إلى ما تخيلته فتحركت داعية المحبة سواء كانت محبة محمودة أو مذمومة.
ولهذا تتحرك النفوس إلى الحج إذا ذكر الحجاز، أو كان أوان الحج، أو رأى من يذهب إلى الحج من أهله وأقاربه، أو أصحابه أو غيرهم، ولو لم يسمع ذلك ويراه لما تحرك ولا حدث منه داعية قوته إلى ذلك، فتتحرك بذكر الأبْرَق والأجْرَع والعُلىَ ونحو ذلك؛ لأنه رأى تلك المنازل لما كان ذاهباً إلى محبوبه، فصار ذكرها يذكره بالمحبوب.