وخامسها ـ أنه أبلغ في جمعية القلب على الذلة في الدعاء، فإن رفع الصوت يفرقه، فكلما خفض صوته، كان أبلغ في تجريد همته وقصده للمدعو ـ سبحانه.
وسادسها ـ وهو من النكت البديعة جدًا : أنه دال على قرب صاحبه للقريب، لا مسألة نداء البعيد للبعيد؛ ولهذا أثنى الله على عبده زكريا بقوله عز وجل :﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا ﴾. / فلما استحضر القلب قرب الله ـ عز وجل. وأنه أقرب إليه من كل قريب أخفى دعاءه ما أمكنه.
وقد أشار النبي ﷺ إلى المعنى بعينه بقوله في الحديث الصحيح ـ لما رفع الصحابة أصواتهم بالتكبير وهم معه في السفر فقال :( ارْبَعُوا على أنفسكم، فإنكم لا تَدْعُون أصمَّ ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا، [ إن الذى تدعونه ] أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ). وقد قال تعالى :﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [ البقرة : ١٨٦ ]، وهذا القرب من الداعى هو قرب خاص، ليس قربًا عامًا من كل أحد، فهو قريب من داعيه وقريب من عابديه، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
وقوله تعالى :﴿ ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ﴾ فيه الإرشاد والإعلام بهذا القرب.
وسابعها : أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال، فإن اللسان لا يمل، والجوارح لا تتعب، بخلاف ما إذا رفع صوته، فإنه قد يمل اللسان وتضعف قواه. وهذا نظير من يقرأ ويكرر، فإذا رفع صوته فإنه لا يطول له، بخلاف من خفض صوته.
وثامنها : أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات، / فإن الداعى إذا أخفى دعاءه لم يدر به أحد، فلا يحصل على هذا تشويش ولا غيره، وإذا جهر به فرطت له الأرواح البشرية ولابد، ومانعته وعارضته، ولو لم يكن إلا أن تعلقها به يفزع عليه همته، فيضعف أثر الدعاء، ومن له تجربة يعرف هذا، فإذا أسر الدعاء أمن هذه المفسدة.


الصفحة التالية
Icon