وتاسعها : أن أعظم النعمة الإقبال والتعبد، ولكل نعمة حاسد على قدرها ـ دَقَّت أو جَلَّت ـ ولا نعمة أعظم من هذه النعمة، فإن أنفس الحاسدين متعلقة بها، وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد. وقد قال يعقوب ليوسف ـ عليهما السلام :﴿ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا ﴾ الآية [ يوسف : ٥ ]. وكم من صاحب قلب وجمعية وحال مع الله ـ تعالى ـ قد تَحَدَّث بها، وأخبر بها فسلبه إياها الأغيار؛ولهذا يوصى العارفون والشيوخ بحفظ السر مع الله ـ تعالى ـ ولا يطلع عليه أحد، والقوم أعظم شيئًا كتمانًا لأحوالهم مع الله ـ عز وجل ـ وما وهب الله من محبته والأُنْس به وجمعية القلب، ولاسيما فعله للمهتدى السالك فإذا تمكن أحدهم وقوى، وثَبَّتَ أصول تلك الشجرة الطيبة التى أصلها ثابت وفرعها في السماء في قلبه ـ بحيث لا يُخْشَى عليه من العواصف، فإنه إذا أبدى حاله مع الله ـ تعالى ـ ليقتدى به ويؤتم به ـ لم يبال. وهذا باب عظيم النفع إنما يعرفه أهله.
وإذا كان الدعاء المأمور بإخفائه يتضمن دعاء الطلب والثناء، والمحبة والإقبال على الله ـ تعالى ـ فهو من عظيم الكنوز التى هى أحق بالإخفاء عن أعين الحاسدين، وهذه فائدة شريفة نافعة.
وعاشرها : أن الدعاء هو ذِكْرٌ للمدعو ـ سبحانه وتعالى ـ متضمن للطلب والثناء عليه بأوصافه وأسمائه. فهو ذكر وزيادة، كما أن الذكر سمى دعاء لتضمنه للطلب، كما قال النبي ﷺ :( أَفْضَلُ الدُّعاء الحمدُ لله ) فسمى الحمد لله دعاء، وهو ثناء محض؛ لأن الحمد متضمن الحب والثناء، والحب أعلى أنواع الطلب، فالحامد طالب للمحبوب، فهو أحق أن يسمى داعيًا من السائل الطالب، فنفس الحمد والثناء متضمن لأعظم الطلب، فهو دعاء حقيقة، بل أحق أن يسمى دعاء من غيره من أنواع الطلب الذى هو دونه.


الصفحة التالية
Icon