والمقصود أن كل واحد من الدعاء والذكر يتضمن الآخر ويدخل فيه، وقد قال تعالى :﴿ وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً ﴾ [ الأعراف : ٢٠٥ ]، فأمر تعالى نبيه ﷺ أن يذكره في نفسه، قال مجاهد وابن جُرَىْج : أمروا أن يذكروه في الصدور بالتضرع والاستكانة دون رفع الصوت والصياح، وتأمل كيف قال في آية الذكر :﴿ وَاذْكُر رَّبَّكَ ﴾ الآية، وفي آية الدعاء :﴿ ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ﴾ [ الأعراف : ٥٥ ]، فذكر التضرع فيهما معًا وهو التذلل، والتمسكن، والانكسار / وهو روح الذكر والدعاء.
وخص الدعاء بالخفية لما ذكرنا من الحكم وغيرها، وخص الذكر بالخيفة لحاجة الذاكر إلى الخوف؛ فإن الذكر يستلزم المحبة ويثمرها، ولابد لمن أكثر من ذكر الله أن يثمر له ذلك محبته، والمحبة ما لم تقترن بالخوف، فإنها لا تنفع صاحبها بل تضره؛ لأنها توجب التوانى والانبساط، وربما آلت بكثير من الجُهَّال المغرورين إلى أن استغنوا بها عن الواجبات، وقالوا : المقصود من العبادات إنما هو عبادة القلب وإقباله على الله، ومحبته له، فإذا حصل المقصود فالاشتغال بالوسيلة باطل.
ولقد حدثنى رجل أنه أنكر على بعض هؤلاء خُلْوَة له ترك فيها الجمعة، فقال له الشيخ : أليس الفقهاء يقولون : إذا خاف على شىء من ماله فإن الجمعة تسقط ؟ فقال له : بلى. فقال له : فقلب المريد أعز عليه من عشرة دراهم ـ أو كما قال ـ وهو إذا خرج ضاع قلبه، فحفظه لقلبه عذر مسقط للجمعة في حقه. فقال له : هذا غرور بك، الواجب الخروج إلى أمر الله ـ عز وجل ـ فتأمل هذا الغرور العظيم، كيف أدى إلى الانسلاخ عن الإسلام جملة، فإن من سلك هذا المسلك انسلخ عن الإسلام العام، كانسلاخ الحية من قشرها، وهو يظن أنه من خاصة الخاصة.