ثم إن زوجها ـ الذي عادته أن يزجر المرأة ـ لم يعاقبها، بل أمر / يوسف بالإعراض، كما ينْعَرُ الديوث، ثم إنها استعانت بالنساء وحبسته، وهو يقول :﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [ يوسف : ٣٣ ].
فليتدبر اللبيب هذه الدواعي التي دعت يوسف إلى ما دعته، وأنه مع توفرها وقوتها، ليس له عن ذلك صارف إذا فعل ذلك، ولا من ينجيه من المخلوقين؛ ليتبين له أن الذي ابتلي به يوسف كان من أعظم الأمور، وأن تقواه وصبره عن المعصية ـ حتى لا يفعلها مع ظلم الظالمين له، حتى لا يجيبهم ـ كان من أعظم الحسنات وأكبر الطاعات، وإن نفس يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ كانت من أزكى الأنفس، فكيف أن يقول :﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ﴾ [ يوسف : ٥٣ ] واللّه يعلم أن نفسه بريئة ليست أمَّارة بالسوء، بل نفس زكية من أعظم النفوس زكاء، والهَمُّ الذي وقع كان زيادة في زكاء نفسه وتقواها، وبحصوله مع تركه للّه لتثبت له به حسنة من أعظم الحسنات التي تزكي نفسه.
الوجه السادس : أن قوله :﴿ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ﴾ [ يوسف : ٥٢ ]، إذا كان معناه ـ على ما زعموه : أن يوسف أراد أن يعلم العزيز أني لم أخنه في امرأته ـ على قول أكثرهم، أو ليعلم الملك أو ليعلم اللّه لم يكن هنا ما يشار إليه، فإنه لم يتقدم من يوسف كلام يشير به إليه، ولا تقدم / ـ أيضاً ـ ذكر عفافه واعتصامه؛ فإن الذي ذكره النسوة قولهن :﴿ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ ﴾ [ يوسف : ٥١ ]، وقول امرأة العزيز :﴿ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ ﴾ [ يوسف : ٥١ ]، وهذا فيه بيان كذبها فيما قالته أولا، ليس فيه نفس فعله الذي فعله هو.